مِن أورشليم الأرضيّة إلى تلك السماويّة
للأرشمندريت يوحنا المشرقي
يُشكِّلُ أحدُ الشعانين عتبةً مهيبةً بين قيامَةِ لعازرَ وآلام السيّد الخلاصيّة. عيدٌ يَحمِلُ مظاهرَ الفَرَحِ والنَّصرِ، يُهيّئ لسرّ البذل والطّاعةِ الكاملين في حبٍّ إلهيٍّ لا حدودَ لهُ. في أحدِ الشعانين، لا تحتفلُ الكنيسةُ فقط بدخول المسيحِ إلى أورشليم، بل بإعلانِهِ مَلِكًا على الخليقةِ بأسرِها؛ لا بالسّلطَةِ القسريّة، بل بالحبّ اللّامتناهي؛ لا بالعُنفِ، بل بالوداعَةِ؛ لا على جوادٍ، بل على جحشٍ "لم يَجلس عليه أحدٌ من النّاس" (مرقس 11: 2). ففي حين كان ملوك الأرضِ يدخلون بمركباتٍ مرصَّعةٍ ويفتخرون بعظمةِ الجنود، اختار المسيح جحشًا، ليُظهِرَ أنّ "مملَكَتَهُ ليست من هذا العالم" (يوحنّا 18: 36). الشعانينُ ليسَ عيدًا مستقلًّا، بل جزءًا من سرِّ التدبير الخلاصيّ؛ هو تَمجيدٌ يَسبقُ الذَّبحَ، انتصارٌ يُمهِّدُ للصليبِ. هو إعلانٌ أنَّ مجدَ المسيحِ هو في بذلِهِ، وأنَّ مُلكَهُ يبدأُ مِنَ الجُلجُلة.
يربطُ الإنجيلُ بوضوحٍ بينَ هذا الدّخولِ ومعجزةِ إقامةِ لعازر التي سبَقَتهُ مباشرةً، والتي أثارتِ الجُّموعَ. رأى الشعبُ في يسوعَ الملكَ المنتظَر، مخلّص إسرائيل، النبيّ الآتي إلى العالم (يوحنّا 6: 14)، فكان الهُتافُ النبويّ، من المزمور 117: «أوصنّا، مباركٌ الآتي باسمِ الربّ»، علامةَ اعترافٍ بمجيءِ المخلِّص. بحسب القدّيس غريغوريوس بالاماس: "إنّ الأطفال كانوا، بإلهامٍ من الروح القدس، يرفعون تسبيحًا كاملًا وتامًّا شاهدين للمسيح الذي بما أنّه إلهٌ كان قد أحيا لعازر الرباعيّ الأيام. وقد أخذوا على أفواههم تسبيحًا ملائكيًا؛ فكما أنّ الملائكة رتّلوا في ولادة الربّ: «المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض» (لوقا 2: 14؛ 19: 38)، هكذا أيضًا هؤلاء، عند دخوله، يرفعون التسبيحَ نفسَهُ قائلين: «أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!» (متى 21: 9)". اللافت هنا، لقد رأى هؤلاء الأطفال الأنقياء، في إقامة لعازر، تذوّقًا مسبقًا لقيامةِ الجنسِ البشريّ بالمسيح يسوع. لم يكتفوا فقط بالتسبيح، بل رفعوا أيضاً أغصان النخيل، التي رأى فيها القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم خشبةَ الصّليب، التي بسطَ الربُّ جسدَهُ الطَّاهر عليها من أجل خلاص العالم، والتي بها حَصَلَت الغلبةُ على الشيطان. هذا، ولم يقتصر الاستقبالُ على الـهُتاف ورَفْعِ السَّعف، إنّما تعدّاهُ إلى خَلعِ الثِّيابِ وفَرشِها في الطَّريق. فَمِن الضروريِّ جدًّا خَلْعُ "الإنسانِ العتيقِ مع أعمَالِهِ" (كولوسّي 9:3)، ولُبسُ "الإنسانِ الجَديدِ المخلوقِ بحسبِ الله" (أفسس 24:4). في السِّياقِ عَينِهِ، يحثُّنا القدّيسُ أندراوس الكريتيّ بقَولِه: "فلنُشابه أولئكَ الذين استَقبَلوهُ، لا بأغصانِ الزيتونِ وفَرشِ السَّعفِ في الطَّريق، بل باتِّضاعِ نفوسِنا واستقامةِ رأينا، لكي نستقبلَ كلمةَ اللهِ في ذواتِنا، الذي هو غيرُ موسوعٍ".
هذا التَّحوّلُ هو بمثابةِ عبورٍ من أورشليمَ الأرضيَّةِ إلى تِلكَ السماويَّة، هو عبورٌ من مِصرَ، العبوديَّةِ، إلى أرضِ الموّعدِ، الحريَّةِ. هو عبورٌ لا يمكن تحقِيقُه إلَّا بشقِّ هيكلِ جَسَدِنا، كما شُقَّ البحرُ الأحمر. عبورٌ يتمُّ برفعِ الصّليبِ، وليسَ بضربِ العَصَا. في واحدةٍ من أجملِ التّسابيحِ، في صلاةِ غروبِ العيدِ، نُرنّمُ: "اليومَ نعمةُ الروحِ القدس جمَعَتنا. وكلُّنا نَرفَعُ صليبَكَ ونقول: مباركٌ الآتي باسمِ الربِّ. أُوصنَّا في الأعالي".
تدعونا الشَّعانينُ إذًا، إلى حَملِ الصَّليب الذي به أَتَى الفرحُ لكلِّ العالم. يَدعُونا الرسول بولس، إِلى عَيّشِ هذا الفَرحِ قائلًا: "اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا. لِيَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ. اَلرَّبُّ قَرِيبٌ" (فيليبي 4:4-5). هذه الدّعوة قُبَيل الدخول في الأسبوع العظيم المقدّس، قد يراها البعضُ في غير مكانها، كيف نفرح كمسيحيّين وسيّدنا آتٍ ليموت؟! يدخلُ إلى أورشليم ليُصلب؟! إلّا أنَّ هذا التعارض الظاهريّ (حزن / فرح، ألم / مجد، صليب / قيامة)، هو بالضبط ما يُضفي طابعاً أسراريًّا على الحياة في المسيح يسوع، فنتحرَّرُ من قيودِ الزَمنِ، لنحيا في كلِّ عملٍِ إلهيٍّ، كاملَ تدبيرِ الله الخلاصيّ. يَظهرُ، إذًا، أنّ الاحتفال الخارجيَّ بالأحداث الخلاصيّة لا يكفي، بل هناك حاجة لمقاربةٍ كيانيّةٍ داخليَّةٍ. لذا يُشدّدُ الرسول بولس أيضًا قائلًا: "لا تغتمّوا البتَّةَ، بل فلتُعرَف طلباتُكُم عند الله في كل شيءٍ بالصّلاة والتضرُّع مع الشُّكر" (فيليبي 6:4). الصلاة والتضرع والشكر، هي استعدادٌ مناسبٌ لمقاربة هذه الأعمال الإلهيّة وهذا الخلاص الحاضر، وللاحتفال بطريقةٍ إلهيّة وليس وثنيًّا.
ختامًا، إنّ الارتباط الوثيق الحاصل بين إقامةِ لعازر ودخولِ المسيحِ إلى أورشليم، يعلنُ لنا، من جهةٍ، الهدفَ من الصعودِ إلى أورشليم، ألا وهو تحقيقُ القيامة العامة، ومن جهةٍ أخرى، الطريقةَ، ألا وهي الصليبُ مع الآلام المحيية. فلنهيّئ قلوبَنا، ولنكن آنيةً مقدَّسةً لله، خالعين بَهيميَّتَنا، ليَحُلَّ اللهُ فينا، فنَصعدَ معه من أورشليم الأرضيّة إلى تلك السماويّة. آمين.