تأمّل غبطة البطريرك الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا: عيد تقدمة يسوع إلى الهيكل - يوم الحياة المكرسة

تجدون في التالي تأمّل غبطة البطريرك الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للّاتين، عيد تقدمة يسوع إلى الهيكل - يوم الحياة المكرسة ، الأحد 2 شباط/ فبراير 2025.



الإخوة والأخوات الأعزاء، 

ليكن سلام الرب معكم! 

كثيرًا ما تُذكر كنيستنا وتُعرف بأنها كنيسة الآلام والجُلجلة، كنيسة الصعوبات والانشقاقات. وهذا الأمر يحمل في طياته جانبًا من الحقيقة. فلا يمكن للمرء أن يكون في القدس دون أن يختبر الجلجلة. إن حراسة الأماكن حيث عاش المسيح تقتضي أيضًا أن نجعل من هذه التجربة جزءًا من حياتنا، ولا شك أن الجلجلة قريبة منا بالتأكيد، نشعر بها في صعوباتنا اليومية. في هذه السنة الأخيرة من الحرب، اختبرنا هذا البعد بشكل لم نشهده من قبل. وكما يقول المزمور، بدا لنا وكأننا "مُقيمينَ في الظُّلمَةِ وظِلالِ المَوت أَسْرى البُؤسِ والحَديد" (مز 107: 10). لكن في هذه السنة المكرَّسة للرجاء، نُعيد تأكيد إيمانناً بإله الحياة الذي حررنا من الظلام وظل الموت، وحطم قيودنا بالمسيح (راجع مز 107: 14).  

وفي هذا اليوم المخصص للحياة المكرسة، أود أن أُبرز الوجه الآخر لحياتنا المسيحية في الأرض المقدسة. وجه أولئك الذين، رغم كل شيء، يواصلون بشهادتهم أن يكونوا "شعلة مضاءة في الليل" و"بذور صلاح في أرض مزّقتها الصّراعات"، كما وجه الأب الأقدس في كلمته لنا قبل بضعة أشهر. إن حضوركم هو ما يجعل أسلوب الحياة المسيحية مرئيًّا أكثر في الأرض المقدسة. إنه أسلوب مُنفَتِح، يضع نفسه في خدمة جميع رجال ونساء هذه الأرض. أود أن أشكركم على ذلك. 

من غير العدل وقلة الإيمان أن نغرق في آلامنا وننغلق على جراحنا دون أن نرفع أنظارنا لنرى معاناة الآخرين ونضعها في المقام الأول. فإدراكنا لهذه الحقيقة يكشف لنا كيف يواصل الروح القدس إلهام مبادرات الحياة والتضامن والرجاء، مساهماً في بناء مستقبل كنيستنا وتعزيز رسالتها.  

إن وجود الجماعات الرهبانية العديدة، التي تفوق نسبياً عدد المسيحيين الفعلي في الأرض المقدسة، هي علامة واضحة على حيوية ونشاط الكنيسة. فهناك بالفعل حضور رهباني في جماعتنا الكنسية الصغيرة يعكس تنوع اللغات والمواهب العديدة الموجودة في الكنيسة الجامعة. يلعب الحضور الرهباني، إلى جانب الرعايا والجماعات المحلية المنتشرة في جميع أنحاء الأرض المقدسة، دورًا أساسيًا، بل أوؤكد إنه لا غنى عنه، في إعطاء كنيستنا طابعها وهويتها المميزة. فالحضور الرهباني يغطي جميع جوانب الحياة في الأرض المقدسة: رعاية الفئات الضعيفة من المجتمع (الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين والعائلات التي تعاني من مشاكل، إلخ)، تقديم التعليم والتنشئة لفئة الشباب المحلي (المدارس والجامعات)، استقبال الحجاج من جميع أنحاء العالم (الأماكن المقدسة)، دراسة ونشر محبة كلمة الله (مراكز الكتاب المقدس)، التكوين اللاهوتي للمكرسين من جميع أنحاء العالم ومن أجل العالم (الدراسات اللاهوتية) ولكن أيضًا للمؤمنين المحليين، إحياء الحياة التأملية والروحية (الأديرة التأملية) وغير ذلك الكثير. 

هذه هي الطرق التي تحافظ بها كنيسة الأرض المقدسة على الشهادة المسيحية الحيّة في هذه الأرض المتألمة. فالإنجيل الذي سمعناه يتحدث عن النور "نُوراً يَتَجَلَّى لِلأُمَم" (لوقا 2: 32)، وهذا هو نهجنا في إعلان محبتنا للمسيح هنا. وبفضلكم، نجعل ذلك ممكنًا. لذا، أشكركم. 

أود أن أتوقف عند مقطعين من إنجيل اليوم الذي لا يزال يشكل تحديًا لنا رغم معرفتنا الجيدة به. 

العنصر الأول يتمحور حول حضور الروح القدس، الذي يُعد الفاعل الرئيسي والمحرك الأساسي في هذا المقطع.  

نجد ذلك فيما يخص سمعان، لكن الروح القدس يشكل الخلفية الكاملة للمقطع (أساس المقطع بأكمله): " وكان الرُّوحُ القُدُسُ نازِلٌ علَيه" (لوقا 2: 25)، وقد أوحى له بأنه سيرى المسيح (لوقا 2: 26). وبدافع من الروح ذهب إلى الهيكل في ذلك اليوم (لوقا 2: 27) وتعرَّف في الطفل على الخلاص الذي طال انتظاره (لوقا 2: 29-32).  

كان الهيكل بلا شك أكثر الأماكن ازدحامًا في المدينة، مليئًا بالناس والحياة، وكان يوسف ومريم وسط الجمع، غير ملحوظين. لذلك، لم يلاحظ أحد - باستثناء الشيخين - وجودهما. فقد كان الناس منهمكين في أعمالهم، ولم يدركوا أن العزاء والخلاص مرّ من وسطهم. لم تكن قلوبهم متيقظة ومترقبة. في الواقع، الإنجيل يصرِّح بأن سمعان كان "يَنتَظرُ الفَرَجَ لإِسرائيل" (لوقا 2: 25).  

إذا كُنتَ تنتظر شيئًا أو شخصًا ما، فأنت أيضًا متيقِّظ للعلامات التي تُبشِّر بقدومه. أما إذا كُنتَ لا تنتظر أحدًا أو شيئًا، فأنت غير مُهتم حتى بالبحث عن أية عَلامات. علاوة على ذلك، لا يتحدث الإنجيل عن انتظار عام، بل عن انتظارٍ مُستنير بالروح القدس، الذي يمكّننا من رؤية دلائل عمل الله. وهذا ما أتاح للشيخين فرصة التعرف على الطفل، والاحتفال فيه بصفته الخلاص والعزاء الذي طال انتظاره.  

إن حياتنا المسيحية بأكملها ليست سوى انتظار لقاء الرب، والاعتراف بأنه حاضر وعامل في حياتنا وفي العالم. لكن، لم يكن من الصعب علينا مِن قبل، أن نرى حضور الله المثمر بيننا كما هو اليوم، خاصة في ظل المأساة التي تعيشها الأرض المقدسة. فنحن نجد أنفسنا نسأل ذات السؤال الذي سأله الله في جنة عدن: "أين أنت؟"  

أزداد قناعة بأن المساهمة التي يجب أن تقدمها الحياة الرهبانية لكنيستنا في الأرض المقدسة هي تحديدًا هذه: أن تكونوا مثل الشيخين اللذين يرشدوننا إلى إدراك حضور العزاء والخلاص بيننا والاحتفال به. أنتم مدعوون، من خلال حياتكم وكلماتكم، إلى مساعدتنا في الإصغاء إلى صوت الروح القدس وتوجيه أنظارنا، هنا في وسطنا، إلى حضور الله المثمر والمُعزّي.  

إلى جانب العديد من الأنشطة القيّمة التي تقومون بها، والتي سبق أن عبّرت عن امتناني لها، ربما تكون هذه الحاجة هي الأكثر إلحاحًا لدينا: أن تفتحوا عيوننا على حضور الله، وعلى عمل الروح القدس، الذي لم يتوقف عن العمل والتأثير في حياة العالم، حتى هنا في الأرض المقدسة. نحن ندرك أن الله لا يعمل بروح الانتصار الظاهر، بل تتجلى قدرته في الوداعة والتواضع. هو حاضر، وملكوت الله ينمو، حيثما يحتفل الرجال والنساء بالفصح، أي حيث يبذلون حياتهم بدافع من المحبة. حيث يتحوّل اللقاء والألفة والصداقة مع المسيح إلى ألفة وصداقة مع الناس اليوم، إلى قدرة على الغفران، وإلى رغبة في الخير للجميع.  

العنصر الثاني الذي أودّ التركيز عليه هو أن التعزية التي يتحدّث عنها سمعان لا يعني  غياب الألم والمشقة. ويشرح سمعان كيف سيحدث ذلك، مستخدمًا هذه المرة صورًا وألفاظًا أكثر دراماتيكية: سقوط وقيام، وآية معرضة للرفض (لوقا ٢: ٣٤)، ليصل في النهاية إلى السيف الذي سيخترق قلب مريم: "ها إنه جعل لسقوط كثير من الناس وقيام كثير منهم في إسرائيل وآية معرضة للرفض" (لوقا ٢: ٣٥). نحن اليوم نعيش زمنًا حافلًا بالتحديات، لكنه في الوقت ذاته زمن الحقيقة. فهو لا يعفينا من الألم والمحن، لكنه يكشف خبايا قلوبنا، ويظهر لنا ما يرسّخ قوتنا في العمق.  

في أحداث الإنجيل، يتبين أنه لا يمكن لقاء يسوع دون أن نتغير: اللقاء به يحدث تغييرًا عميقًا وولادة جديدة. ومن طريقة استقبال هذا التجدد أو رفضه، ستنكشف أفكار القلوب، وسيظهر نوع الإنسان الذي نريد أن نكونه وما نحمله في قلبنا. الرفض يؤدي إلى الموت، إلى حياة خالية من الرجاء والانتظار. أما القبول، فيؤدي إلى الخلاص، إلى حياة جديدة، كما حدث في حياة سمعان وحنة، اللذين عاشا حياتهما دون التوقف عند أفكارهما الخاصة، بل سمحا بتشكيل ذهنيهما وقلبيهما بفكر الإيمان، مغذيَيْن ذلك بالكتاب المقدس، ومتبعَيْن إرشادات الروح، ليصبحا بذلك نبيين متواضعين وثابتين للرب.  

لذلك، ليكن حضوركم في الكنيسة علامة على ذلك.  

من خلال الوداعة التي تميز الحضور الرهباني، من خلال شهادة متواضعة وبسيطة عن بذل الذات، بالرغبة في الإصغاء العميق، وبمرافقة من هم في ألم ومعاناة، خاصةً الضعيف، بقدرتكم على الغفران، بكلماتكم التي تحمل العزاء، وبفتح آفاق جديدة حيث يبدو كل شيء مغلقًا وبلا رجاء. ليس بادعاء حل جميع المشكلات، بل ببساطة عبر الشهادة للحرية الحقيقية، التي تميز أولئك غير المرتبطين بهموم العالم.  

باختصار، أن تكونوا كل يوم، في الفرح كما في الألم، بشرى الخلاص الذي نلتموه وتهبونه للآخرين.  

عيد سعيد للجميع!  

ترجمة مكتب الإعلام البطريركي - القدس


+ غبطة البطريرك الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للّاتين

هذا التأمّل نُشر على موقع بطريركيّة القدس للّاتين.

Previous
Previous

نور الإيمان وشهادة الحياة المكرسة: غبطة البطريرك الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا يترأس احتفالات عيد التقدمة

Next
Next

غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو في قداس الأحد الرابع من الدنح: المسيحي مدعو لحمل رسالة المسيح الى الاخرين