كلمة غبطة البطريرك يوسف العبسي

السنة اليوبيليّة وأهميّة التفكير الأكاديميّ

المؤتمر العالميّ من تنظيم بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيّين الكاثوليك

"الاتّحاد مع روما ومستَشْرَفات جديدة"

تجدون في التّالي الكلمة الّتي ألقاها غبطة البطريرك يوسف العبسي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيّين الكاثوليك، والرئيس الفخري لمجلس كنائس الشرق الأوسط، في افتتاح المؤتمر الدولي الّذي نظّمته بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيّين الكاثوليك تحت عنوان "كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك: "الاتّحاد مع روما ومستَشْرَفات جديدة"، وذلك بين 24 و26 حزيران/ يونيو 2024، في مركز لقاء في الربوة – لبنان.

عندما قرّر سينودس كنيستنا الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة أن نحييَ ذكرى استعادة وحدة كنيستنا الأنطاكيّةِ مع الكنيسة الرسوليّة الرومانيّة، وضع القيّمون على إحياء الذكرى برنامجًا متنوّعًا ثريًّا يشمل معظم النواحي التي تندرج في إطار هذا الإحياء، من احتفالات ليترجيّة طقسيّة، إلى نشاطات شبابيّة، إلى لقاءات رعائيّة، إلى زيارات أبرشيّة، إلى رحلات ححّ، إلخ... لكنّ الفقرة التي شاء أولئك القيّمون أن يفرزوا لها وقتًا أوسع ويعطوها بعدًا عالميًّا ويسبغوا عليها قيمة أغنى ويمنحوها أهمّيّة أكبر والتي اعتبروها حجر الزاوية في السنة اليوبيليّة، هي الفقرة التي تُعنى بالشأن الفكريّ العلميّ، التاريخيّ واللاهوتيّ والروحيّ. فأعادوا طباعة كتاب السواعي الذي كان أوّل كتاب طُبع بالحرف العربيّ في تاريخ الطباعة العربيّة، عام 1514، ونشروا كتبًا أُلّفت خصّيصًا للذكرى المئويّة، ونظّموا لقاءات وندوات ثقافيّة، فكريّة وفنّيّة، مجنّدين كلّ من رأوا واستشفّوا فيه الكفاءة والمقدرة. غير أنّ الفقرة التي استأثرت باهتمامهم قد تكون الفقرة التي نقيمها الآن في هذا المكان، أعني المؤتمر العالميّ حول "الكنيسة الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة: الاتّحاد مع روما ومستَشْرَفات جديدة"، لأنّ هذه الفقرة، بعناوينها، تكاد تكون شاملة إذ تمرّ بالتاريخ والإكليزيولوجيا واللاهوت والمسكونيّات والسينودسات والمغترَبات والليترجيّات والرعائيّات، مستنبشةً الماضي ومستعرضة الحاضر ومستقرئة أو مصوّرة المستقبل.

لماذا كلّ هذا الاهتمام والتركيز؟ لأنّ التفكير العلميّ، حتّى في الدين، هو القاعدة التي تقوم عليها الأعمدة التي يرتفع عليها البناء. والبرهان على ذلك أنّ البحث العلميّ في الكنيسة عامّة ابتدأ، إن لم نقل حالًا، إنّما ليس متأخّرًا وبعيدًا عن بدايات انتشار المسيحيّة في العالم، نجد له جذورًا، ولو بدائيّة، في رسائل القدّيس بولس، في مقارناته، على سبيل المثال، بين العهد القديم والعهد الجديد، وفي دفاعه عن رسالته. منذ ذلك الحين راح البحث العلميّ يتطوّر ويتقدّم إلى أن بلغ ما بلغ إليه في أيّامنا الحاضرة، ولا ندري إلى أين سوف تصل نتائجه. والسبب هو أنّ البحث مطلب العقل سواء في الدين أو في غير الدين.

إذا ما تطلّعنا من قمّة السنوات الثلاثمئة إلى خلفنا نرى أنّ البحث العلميّ كانت له مكانة ذات قيمة في كنيستنا الأنطاكيّة على مدى تاريخها وإن بدرجات متفاوتة وإن اختلف من حقبة إلى حقبة، نظرًا إلى الأحداث المفجعة والأيّام المؤلمة والكوارث الهائلة التي حلّت ببطريركيّتنا حتّى كادت تقضي عليها في بعض الأحيان، لولا العناية الإلهيّة التي وعدتها بأنّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها. أجل، للتفكير العلميّ مكانة ذات قيمة في بطريركيّتنا الأنطاكيّة. الأسماء كثيرة، والمواضيع متنوّعة ووافية، والأساليب جيّدة. وما نبغت فيه كنيستنا هو استعمالها البارع الناجح للّغات التي مرّت عليها من حقبة إلى حقبة، حتّى العصر الحديث، اليونانيّة والسريانيّة والعربيّة واللغات الحديثة، والتي طوّعتها وجعلت منها أدوات صالحة للتعبير عن خصوصيّاتها في كلّ المواضيع، مستنبطة مفردات وتعابير جديدة خاصّة بها.

ما يجدر التوقّف عنده ومراجعة الذات بشأنه في هذه المئويّة الثالثة هو المستقبل، وبالطبع الحاضر الذي يهيِّئ له. إنّ كنيستنا في اليوم الحاضر تفتقر إلى التفكير الأكاديميّ بالمعنى الحصريّ. قلّة من الكهنة والرهبان والراهبات يتمتّعون بتحصيل علميّ عال يسمح لهم بالتفكير والبحث الأكاديميّين. العلمانيّون نادرون جدًّا. المعاهد؟ في الوقت الحاضر معهد واحد. المجلّات؟ ثلاث، توقّفت الواحدة تلو الأخرى عن الصدور: المسرّة والوحدة والرابطة. لذلك علينا العناية بهذه الناحية بواسطة التحصيل العلميّ العالي، إذا أردنا أن تكون لنا مدرسةٌ أنطاكيّة كما كان في الماضي. فنحن اليوم نتأرجح بين الشرق اليونانيّ والغرب اللاتينيّ. بالإضافة إلى هذين المحورين أو المرجعين يحسن أن تكون لنا أصالتنا التي تنبع خصوصًا من العالم الإسلاميّ الذي نعيش فيه. من هذا المنطلق أنشأنا في دمشق، في بيئة مسلمة، كلّيّة للّاهوت ومدرسة للموسيقى البيزنطيّة وأخرى للإيقونوغرافيا. وعلم اللاهوت ليس علمًا بالله في ذاته فقط بل هو أيضًا علم بالله في عِلاقته مع الإنسان في واقع معيّن من المجتمع والزمان والمكان. والحال أنّ هذا الواقع، أنّ الإنسان عينه، تحصل فيه تغيّراتٌ وتبدّلات تستدعي تفكيرًا وبحثًا علميّين مرافقين. مثال على ذلك ما يجري اليوم في كنيسة الغرب من تفكير لدى قداسة البابا فرنسيس في أكثر من موضوع أنتم على اطّلاع عليه. الإحاطة الكاملة النهائيّة بالله غير ممكنة من ناحية، والمتغيّرات في حياة الإنسان غير متوقّفة ولا جامدة من ناحية أخرى. بالتالي، في التفكير والبحث العلميّين استمراريّة دائمة. أرجو أن يكون هذا المؤتمر حلقة، أو خطوة في تفكيرنا وبحثنا.

قلتُ إنّ رسائل بولس هي عصارة تفكيره. أقول كذلك إنّها عصارة تأمّله وصلاته. ليس في المسيحيّة تفكير مجرّد عن الصلاة. في المسيحيّة لا يكون التفكير مستقيمًا من دون تأمّل وصلاة. في المسيحيّة لا نبتدئ بالتفكير والبحث بل بالصلاة والاستماع. يخبرنا الإنجيل أنّ المسيح حين كان يختلي كان يختلي للصلاة. لم يخبرنا الإنجيل يومًا أنّ السيّد المسيح اختلى للتفكير. التفكير حاصل لكلّ الناس. الصلاة لا تحصل إلّا للذين يحرّكهم الروح القدس ويتّخذ منهم يراعات وقيثارات (الاستشهاد ببولس: لا تخف سوف تكون لي. لإلى روما؟). إذا ما رجعنا إلى صلواتنا الطقسيّة نرى أنّ تفكيرها مجبول بالصلاة، محوّل إلى صلاة. نحن نصلّي بتعابير ومفردات لاهوتيّة وكتابيّة وليس عاطفيّة. التفكير اللاهوتيّ يقود إلى الصلاة كما نقول في الصلاة التي قبل تلاوة الإنجيل: "أيّها السيّد المحبّ البشر أضئ قلوبنا بصافي نور معرفتك الإلهيّة وافتح عيون أذهاننا لنفهم تعاليمك الإنجيليّة". الفهم يأتي من النور الإلهيّ. لا نتعلّم اللاهوت في المعاهد فقط بل أيضًا في الكنائس والأديار. علينا أن نحذر من أن يقصد طالب الكهنوت المعاهد اللاهوتيّة أو حتّى الأديار بذهنيّة الطالب لدرس أيّ مادّة دراسيّة أخرى لا غير، لينهل معارف عن الربّ يسوع أكثر ممّا يبغي معرفته. للتدليل على هذه الأهمّيّة أفرز القيّمون على المؤتمر مساحات كبيرة للصلاة والتأمّل بموازاة مساحات التفكير والبحث.

أرجو أن يكون هذا المؤتمر نقطة انطلاق وفاتحة لمسيرة فكريّة أنطاكيّة متجدّدة يتعانق فيها التفكير والصلاة ويتلاثم العقل والقلب. هذا ما دفع القيّمين على المئويّة الثالثة إلى أن يفردوا فقرات كثيرة متنوّعة للصلاة ترافق فقرات التفكير لأنّ الروح واحد في صلاتنا وتفكيرنا. دعاؤنا اليوم وفي كلّ يوم أن يهبّ هذا الروح عينه في مسيرتنا المئويّة الثالثة ويحرّكها لكي تستمرّ كنيستنا الأنطاكيّة في شهادتها الإنجيليّة بكلّ الوسائل المتاحة ومنها بنوع خاصّ التفكيرُ الأكاديميّ ولا سيّما في هذه السنة اليوبيليّة.

مع أمنياتي بالنجاح.

إضغط هنا للإطّلاع على الصور.

هذه الكلمة نُشرت على صفحة بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيّين الكاثوليك على موقع فيسبوك.

Previous
Previous

غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان يزور

Next
Next

قداسة البابا تواضروس الثاني يلتقي شباب من إيبارشيّة بنسلڤانيا