كلمة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر

في صلاة الشكر في كنيسة القدّيس جاورجيوس، اللّاذقيّة

تجدون في التّالي الكلمة الّتي ألقاها غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس، ورئيس مجلس كنائس الشرق الأوسط عن العائلة الأرثوذكسيّة، في صلاة الشكر الّتي ترأّسها في كنيسة القدّيس القدّيس جاورجيوس خلال زيارته الرعائيّة إلى اللّاذقيّة.

صاحب السيادة المطران أثناسيوس،

الإخوة الأحباء،

المسيح قام، حقاً قام.

من اللاذقية، من عروس شاطئ المتوسط ومن ربيبة الأبدية التي تلثم وجه الشمس، نطل اليوم في هذا الموسم القيامي البهي. نطل لنجدد تكريس هذه الكنيسة للابس الظفر جاورجيوس. نطل من ههنا لنقول إننا توأم هذه الأرض التي نحب ونعشق. نطل لنقول للقاصي وللداني، نحن من ههنا. نحن من هذه الروابي، ومن هذه الشطآن. نحن من جرن هذه الأرض ومن ميرون أزاهيرها. نحن هنا في تجلّينا هياكلَ بشريةً دمغتْ بروحها الحجر وأنطقَتهُ هياكل حجريةً.

من غابر الزمن شاء اللاذقيون شفاعة العظيم في الشهداء جاورجيوس لهم ولأسرهم. شاء اللاذقيون شفاعة جاورجيوس "حارث الأرض، العامل في الأرض أو الفلاح" كما يعني اسمه في اليونانية، لتكون مرافقةً لهم على مدى التاريخ. يطيب لي أن أقرأ في هذا الاسم ذاك الملتصقَ بالأرض والمتأتي منها، ذاك الذي حرث النفوس وبذر فيها يسوع المسيحَ، تلك الجماعة الي تعتبر الأرض هويةً وكينونةً. زلازل وكوارثُ وصواعدُ ونوازلُ مرت على هذه الأرض التي تمسحنت بأقدام التلاميذ، ومنذ ألفي عام إلى اليوم يبقى لها اسم المسيح مرساةَ خلاصٍ وميناءَ سلامٍ وسط خضم هذا العالم ووسط أمواجه التي تتكسر دائماً أمام صخر الرجاء بالمسيح.

من ههنا، من هذه الكنيسة التي تنفض عنها ركام الزلزلة، نطل اليوم لنزلزل الدنيا بصرخة -المسيح قام-. نطل اليوم لنصرخ بملء حناجرنا:

المسيح قام ونحن أبناء الرجاء.

المسيح قام وأنطاكية المسيحية تأبى إلا أن تكون من هذا الشرق.

المسيح قام ونحن شهودٌ على ذلك من هذا الشرق المهد الأول للمسيحية.

المسيح قام وأجراسنا ستقرع.

المسيح قام وروابينا ستشهد.

من هذه الأرض ومن هذه الشطآن التي اعتمدت باسم يسوع ومسحنت أثينا وروما والشرق والغرب نطل اليوم لنرسم للعالم أن المسيح تجسد في هذا الشرق ووجه المسيح لن يغيب عنه.

نطل اليوم وفي يدنا نور القيامة، نضيئُه في عتمات هذا الدهر. نطل اليوم وفي يمنانا نور المسيح الناهض من القبر لنقول إننا على عهده باقون دوماً وأبداً. وهو الذي قال "أنا معكم طول الأيام إلى انقضاء الدهر آمين". ومن هذه المعية نطل على عالمنا الغارق في دياجير العنف والمتخبط في تلافيف الاضطرابات، نطل بمعية هذا القدوس أبي الأنوار وإله كل تعزية. نطل وفي آذاننا صدى كلماته "ثقوا لقد غلبت العالم". نطل اليوم لنرفع الصلاة من أجل إخوتنا وأحبتنا الذين قضوا في زلزال العام الماضي والذين قاسوا آثاره العديدة. نطل في موسم القيامة الذي نصرخ فيه ومن عمق القلب والنفس ونقول: المسيح قام وأزاح عن قبره وعنا حجر الضيق ووشانا برجائه الخلاصي وجعلنا أبناء جدّة الحياة وسربلنا بالنور ووشحنا بالضياء وسقانا من إكسير الحياة الأبدية المتدفقة من جنبه الخلاصي.

صاحب السيادة،

أخاطب فيكم كل أبرشية اللاذقية وأخاطب فيكم كل من سبقوا في دفة رعاية هذه الأبرشية المحروسة بالله. أخاطب فيكم هذا الشعب المحب لله الذي أراد أن يكون فصحه فصحين، فصح قيامةِ المسيح من بين الأموات وفصحُ قيامةِ هذه الكنيسة الحية بنفوس أبنائها وبحرارة إيمانهم. أخاطب فيكم تاريخ هذه الأبرشية من ملاتيوس الدوماني راعيها الذي تقلّد دفة الكنيسة الأنطاكية في مطلع القرن الماضي مروراً بابنها البار العلّامة جراسيموس مسرة مطران بيروت وبمطرانها إغناطيوس هزيم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق لاحقاً وصولاً إلى يوحنا منصور الراعي المحب الذي عرفناه جميعاً أباً ورجل محبةٍ. أخاطب فيكم الإكليروس الموقر وسائر الهيئات الكنسية التي تلهب الغيرةُ الإلهية قلبهم. أخاطب فيكم كل نفس قيامية تسعى أن تكون أهلاً لذاك العروس السماوي الختن الظافر يسوع المسيح. أخاطب فيكم أصالة الإيمان وأدعو لكم بالصحة والقوة. بوركت يمينكم وبورك شعب اللاذقية الذي يهتف اليوم ومن ملء القلب: المسيح قام.

من اللاذقية سلامٌ لابن اللاذقية لسيدنا بولس يازجي مطران حلب، والذي كان كاهن هذه الكنيسة وخادم هذه الرعية أثناء خدمته في هذه الأبرشية، ولأخيه المطران يوحنا إبراهيم الشاهدَين على صليب المسيحية في هذا الشرق، الشاهدين في عامهما الحادي عشرَ على امتهان كرامة الإنسان المشرقي في الخطف المدان والصمتِ المستنكر واللذين تختزل حالتهما شيئاً مما عاناه إنسان هذه الديار من إجحافٍ وقهرٍ ومن استنسابية في استخدام حقوق الإنسان في بورصة المصالح الدولية ويا للأسف.

جئنا اليوم من دمشق التي وجد بولس طريقها طريق هدايةٍ ودرب استنارة. جئنا وفي آذاننا رنت كلمات السيد له مِن على أسوار دمشق: شاول شاول لِم تضطهدني. جئنا مجددين للمسيح عهد شهادةٍ في هذه الأرض التي لامست أقدام رسله. جئنا لنسمع العالم أجمع صوتنا ومن عمق هذه الأرض التي نحب ونعشق:

لقد آن لجلجلة سوريا أن تنتهي.

ارفعوا الحصار الآثم عن هذا الشعب وعن هذا البلد.

نحن لم نخلق لنموت على قارعة البحار ولم نوجد لنحلم بالسفر والهجرة. كفانا تباكياً على هجرةٍ وتهجير. كفانا تباكياً على حماية أقلياتٍ ومنطق أكثريات.

كمسيحيين أصلاء في هذه الأرض، نحن ميرونها وغارها.

نحن من رحابة سهول سوريا ومن شموخ أرز لبنان.

نحن من ثلج حرمون ومن بيّارات فلسطين.

وفّروا عليكم وعلى حكوماتكم وعلى أبنائنا من كل الأطياف مشقة السفر والتشرد، ارفعوا عن سوريا وعن الشرق أجمع سياسة التجويع الآثم الذي يتخذ من الحصار وسيلةً أدمت قلوبنا بعد حربٍ آثمةٍ كان وقودها هذا الإنسان المشرقي بكل أطيافه.

نصلي اليوم من أجل فلسطين ومن أجل غزة التي تدفع من دماء أبنائها ضريبة التخاذل الدولي وضريبة التشرذم العربي. نحن مع شعب فلسطين الأبي الصامد ومع قضيته العادلة. نحن معه في حقوقه الممتهنة منذ أكثر من خمسةٍ وسبعين عاماً. لفلسطين ضوعٌ عطرٌ سكبتهُ أنطاكية على لسان أحبارها البطاركة وللقدس خاصةً عبيرٌ خاص فهي على حد تعبيرهم معراجنا جميعاً إلى رحمانية الله. وفيها يلتمس عباد الله مرضاة وجهه.

في هذا اليوم المبارك، من على هذا المنبر الشريف، نبعث بالتحية إلى سيادة الدكتور بشار الأسد، رئيس الجمهورية العربية السورية.

من اللاذقية، أطيب سلامٍ لأنطاكية، لأهلنا في لواء الاسكندرون الذين قاسَوا ويقاسون إلى الآن نكبة الزلزال. نحاول بشتى الوسائل أن نكون إلى جانبهم. وهم في قلبنا. لا بل هم قلب كنيسة أنطاكية التاريخي الحي النابض إلى الآن غيرةً ومحبةً وإيماناً مجسداً لمقولة كاتب سفر الأعمال: "وفي أنطاكية دعي التلاميذ مسيحيين أولاً". ومن اللاذقية أيضاً سلام إلى كل أبنائنا في الوطن وفي بلاد الانتشار مع بركات الرسولين بطرس وبولس مؤسسي كنيستنا الأنطاكية المقدسة.

بوركت يمينكم صاحب السيادة وبورك جهدكم وتعبكم في حقل الرب أبي الأنوار. كافأكم الله على أتعابكم في ترميم هذه الكنيسة وأجزل عليكم من معين صلاحه كي تبقوا على سدة هذه الأبرشية مستنيرين ومنيرين بنعمة مَن مِن لدنْه كل عطية صالحة وكل موهبة كاملة.

شددنا يا رب إلى دهر الداهرين واحفظ هذا البيت المقدس وبارك كل الذين تعبوا حتى يخرج إلى النور بهياً في موسم نورك الإلهي. بارك هذه الأبرشية واحفظها نابضةً بحبك.

وختاماً،

لو سألني الناس عنكم أيها اللاذقيون أنْ ماذا أقول فيكم، لما وجدت أحلى وأعطر مما ننشده في كنيستنا المقدسة:

قل لمن يسأل عنَّا أيُّ شعبٍ أي دينْ

نحن للمجد خُلقنا نحن للحق المُبينْ

المسيح قام، حقاً قام.

هذه الكلمة نُشرت على صفحة بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس على موقع فيسبوك.

Previous
Previous

غبطة البطريرك يوحنّا العاشر يصل إلى اللّاذقيّة ويقيم صلاة الشكر ويؤكّد

Next
Next

فيديو - غبطة البطريرك يوحنّا العاشر في زيارة رعائيّة إلى أبرشيّة اللّاذقيّة وتوابعها