عظة غبطة البطريرك يوسف العبسي في اللّيترجيا الإلهيّة المقدّسة لعيد القيامة 2024

ترأّس غبطة البطريرك يوسف العبسي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيّين الكاثوليك، والرئيس الفخري لمجلس كنائس الشرق الأوسط، رتبة الهجمة وصلاة السحر اللّيترجيا الإلهيّة المقدّسة لمناسبة أحد القيامة العظيم المقدّس، يوم الأحد 31 آذار/ مارس 2024، حيث شاركه سيادة المتروبوليت نيقولاوس أنتيبا، النائب البطريركي العام في دمشق، ولفيف من كهنة الأبرشيّة، وذلك في كاتدرائيّة سيّدة النياح - حارة الزيتون، سورية.

وجاء في عظة غبطة البطريرك يوسف العبسي:

عيد القيامة 2024

المسيح قام! حقًّا قام!

أيّها الأحبّاء، هوذا قد بلغنا إلى هذا اليوم، يوم الفصح الشريفِ الجديد المقدّس السرّيّ العظيم الفاتحِ أبوابَ الفردوس والمقدِّسِ جميعَ المؤمنين. قد بلغنا إلى موسم المواسم وعيد الأعياد، إلى يوم قيامة ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح من بين الأموات، من بعدِ أن استعددنا لهذا اليوم المنتظرَ مدّة خمسين يومًا قضيناها بالصلاة والصوم وأعمال البرّ حتّى نحتفل في هذه الساعة بالنقاوة والسلام والفرح وننشدَ كلّنا معًا بفم واحد وقلب واحد، بصوت عالٍ: "المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للّذين في القبور".

المسيح قام! نقولها بفرح، إلّا أنّ في قلبنا مع الفرح غصّة. كيف لا والموت في مناطق كثيرة من العالم بل من حولنا بالقرب منّا في فلسطين في غزّة يفتِك ويحصُد عشرات الآلاف من الأبرياء والشرُّ يتفاقم ويتغلغل وكأنّ العالم بات محكومًا عليه بهما، بالموت والشرّ، ومستسلمًا لهما، يستخدمهما أو يخضع لهما أناس لا يعرفون معنًى ولا قيمة ولا طعمًا للحياة والخير، حتّى إنّنا بات يلزمنا الكثير من القوّة لنؤمن بأنّ الحياة تنتصر، الكثيرُ من الجهد لنؤمن بأنّ المسيح قام من بين الأموات وبأنّه قد لاشى الموت آخر عدوّ لنا كما وصفه بولس الرسول (1كور15: 26)، يلزمنا الكثير من الإقناع لكي نؤمن بما علّمنا بولس أنّ المسيح صار إنسانًا لكي يُبيد بالموت [بموته] من له سلطان الموت: أعني إبليس" (عبرا 2: 14)، باتت متزعزعة ثقتنا بقول يسوع: "أنا القيامة والحياة من آمن بي وإن مات فسيحيا" (يوحنّا11: 25)، "ثقوا فقد غلبتُ العالم" (يوحنّا16: 33)، بات ضعيفًا رجاؤنا بأنّنا بالغون إلى الحياة، إلى الحرّيّة والأخوّة والمساواة والعدالة والكرامة والسعادة.

إلّا أنّ الكنيسة، بالرغم من ذلك، بالرغم من الشرّ المنتشر في العالم ومن البشاعات البشريّة التي نراها في كلّ يوم وفي كلّ مكان، والتي من شأنها أن تزعزع إيماننا وتزرعَ الشكّ في قلوبنا، تدعونا [الكنيسة] إلى أن نَزيد إيمانًا بأنّ يسوع قام من بين الأموات وبأنّه داس الموتَ بالموت. تقول لنا الكنيسة في هذا الصباح المنير بجرأة ويقين كبيرين "لقد رأينا قيامة المسيح". بعد ألفي عام من الأهوال والويلات، من الحروب والكوارث، من القتل والموت، التي ضربت وتضرب البشريّة، ما زالت الكنيسة تصدح بأعلى صوتها لقد رأينا قيامة المسيح. ما زالت الكنيسة اليوم وفي كلّ لحظة من حياتها تعيش بقوّةٍ تلك اللحظة التي عاشها يوحنّا الرسول حين دخل مع بطرس الرسول إلى قبر المسيح ورآه فارغًا فقال عن حاله: "رأى وآمن". وما زالت الكنيسة تردّد لتوما المشكّك ولكلّ من يحاكيه قولَ المسيح له "هاتٍ إصبعك إلى ههنا وانظر يديّ وهاتٍ يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا" (يوحنّا20: 27). أجل الكنيسة ترى قيامة الربّ يسوع في كلّ لحظة كما لو أنّها حاصلة في كلّ لحظة.

في نظرنا نحن المسيحيّن ليست قيامة السيّد المسيح واقعة وقعت في التاريخ وبقيت محدودة حيث وقعت وحين وقعت وخُتِم عليها. لم ينتهِ كلّ شيء بأن قام السيّد المسيح ثمّ طويت الصفحة كما تطوى صفحات التاريخ كلّها. قيامة السيّد المسيح واقعة تمتدّ عَبر الزمان والمكان وتبقى حاضرة فاعلةً إلى أن يصير الله كلًّا في الكلّ، إلى أن ننتهي كلّنا إلى المسيح ونكونَ مع الربّ دائمًا ، كما يقول بولس الرسول. ولكي تبقى القيامة هكذا مستمرّة، لكي يبقى المسيح القائم من بين الأموات معنا، كما وعدنا بقوله: "ها أنذا معكم إلى انقضاء الدهر"، صنع سرّ القربان المقدّس ،كما أخبرنا الإنجيليّون الثلاثة متّى ومرقس ولوقا، وعهِد إلى تلاميذه بأن يصنعوه بدورهم "إلى أن يأتي". أسّس الربّ يسوع في ليلة آلامه سرّ القربان المقدّس الذي فيه يكون حاضًرا معنا بحسده ودمه. القيامة مستمرّة في سرّ القربان المقدّس. الخبر المحوّل إلى جسد المسيح والخمر المحوّل إلى دمه هما يسوع المسيح القائم من بين الأموات والحاضر معنا. لا نستطيع أن نفصل سرّ القربان عن القيامة. لذلك يقول لنا الربّ يسوع في إنجيل يوحنّا: "من يأكلْ جسدي ويشرب دمي فله الحياة وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يوحنّا6: 54). القيامة مرتبطة ارتباطًا جوهريًّا بسرّ القربان المقدّس ومستمرّة به. لذلك يقول لنا القدّيس بولس أيضًا في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثس إنّه سلّمنا ما تسلّمه هو نفسه، سلّمنا أمرين متلازمين. الأمرُ الأوّل هو أنّ الرب يسوع، في الليلة التي أُسلِم فيها، أخذ خبزًا وشكر وكسره وقال ’هذا هو جسدي الذي هو لأجلكم، اصنعوا هذا لذكري‘، وكذلك الكأس من بعد العشاء قائلًا ’هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، اصنعوا هذا كلّما شربتم لذكري‘" (1كور11: 23-27). والأمر الثاني هو "أنّ المسيح قد مات من أجل خطايانا... وأنّه قُبر وأنّه قام في اليوم الثالث" (1كور15:3-4). لم تنتهي قيامة المسيح كما أراد أن ينهيها اليهود بأن رشوا الحرّاس ليقولوا إنّ تلاميذ يسوع سرقوا جسده ليلًا وقالوا إنّه قام. كلّا. قام المسيح وهو باق معنا بجسده ودمه إلى انقضاء الدهر. هكذا أخبرنا متّى الإنجيليّ بقوله: "لـمّا رأى التلاميذُ الأحدَ عشر يسوع القائم سجدوا له هم الذين كانوا قبلًا قد ارتابوا فدنا يسوع وكلّمهم قائلًا ها أناذا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر" (متّى28: 16-20).

وإذا كانت القيامة مستمرّة، إذا كان يسوع القائم من بين الأموات حاضرًا معنا على الدوام ما عادت القيامة في نظرنا نحن المسيحيّين حدثًا ننتظره في المستقبل فقط، حدثًا سيحصل في يوم من الأيّام، بل هي حدث نعيشه ونطبّقه في كلّ يوم ولو بشكل غير كامل إلى أن يُلاشي الربُّ يسوع الموتَ آخر عدوّ، "ويُخضِعَ نفسه للذي أخضع له كلّ شيء، ليكون الله كلًّا في الكلّ"، كما يقول بولس الرسول (1كور15: 20-28). القيامة هي في كلّ عمل يحرّر الإنسان، في كلّ عمل يعيد إليه كرامته، في كلّ عمل يزرع الفرح والسلام في حياته، في كلّ عمل عادل منصف، في كلّ عمل جميل وجيّد. القيامة هي في القداسة والشهادة اللتين نراهما في الكنيسة في شعبها كلّه من أقصى الأرض إلى أقصاها…

هذه العظة نُشرت على صفحة بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

عظة غبطة البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في أحد القيامة

Next
Next

بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس تقيم ورشة العمل الثانية