عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في أحد تذكار الموتى
تجدون في التّالي عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، في أحد تذكار الموتى، 3 شباط/ فبراير 2024، في الصرح البطريركيّ في بكركي، لبنان.
"عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" (لو 16: 29)
1. تذكر الكنيسة في هذا الأحد وتصلّي طيلة الأسبوع لراحة نفوس الموتى المؤمنين. فنذكر بالصلاة وأعمال الرحمة أمواتنا الّذين تجمعنا بهم شركة القدّيسين. يذكّرنا الربّ يسوع في إنجيل اليوم بأنّ في مسيرتنا على الأرض، كلّ واحد وواحدة منّا مدعوّ ليهيّء خلاصه الأبديّ بعيش المحبّة الإجتماعيّة وإشراك المحتاجين والفقراء بما يملك أكثيرًا كان أم قليلًا. في هذا المسار يشكّل الكلام الإلهيّ نورنا الهادي. فلمّا طلب ذاك الغنيّ المعذّب في نار جهنّم من إبراهيم أن يرسل لعازر المسكين المتلألئ في مجد السماء، إلى إخوته الخمسة ليبدّلوا طريقة حياتهم، أجابه إبراهيم: "عندهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" (لو 16: 29).
2. يعرف الله ضعفنا وسرعة سقوطنا في الخطايا حتّى نسيانه وتغييبه، والتصرّف بالأنانيّة والجشع والطمع، فوهبنا كلامه لينير دروبنا، بلسان موسى والأنبياء، وفي ملء الزمن بالكلمة المتجسّد يسوع المسيح وبإنجيله، وبتعليم الكنيسة، فضلًا عن كلامه لكلّ واحد وواحدة من الناس بصوت ضميره، الّذي هو صوت الله في أعماق الإنسان، ينبّهه باستمرار: "إفعل هذا، ولا تفعل ذاك".
3. يُسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة التي نقدّمها لراحة نفوس موتانا وسائر الموتى المؤمنين. ونضمّ إليها أعمال الرحمة والمحبّة. وإنّي أعرب عن تعازي القلبيّة لكلّ الذين واالواتي فقدوا عزيزًا عليهم في هذه السنة المنصرمة. وأخصّ بالذكر عائلة المرحوم شكرالله جريس سبع الحاج الحاضرة معنا. وقد ودّعناه معهم ومع أهالي بقعتوتة العزيزة منذ أسبوعين. أحيّي من بين أبنائه وبناته عزيزنا ريمون رئيس بلديّة بقعتوته، وعزيزتنا هند رئيسة إقليم أخويّات نيابة صربا البطريركيّة وإبنها ولدنا الأب شربل الراهب اللبنانيّ المارونيّ. كما احيي الوفد الحاضر بيننا من متقاعدي الضابطة الجمركية.
وإذ أرحّب بكم جميعًا، أوجّه تحيّة خاصّة إلى سعادة السفير رومانوس رعد، ونهنّئه على رفعه إلى رتبة لواء في الأنتربول المركزيّ التابع للأمم المتّحدة، مع مهمّة الممثّل العام لمكتب المنظّمة في لبنان.
4. في تذكار الموتى نتذكّر: أنّنا وُلدنا لنموت. هذه الحقيقة على مرارتها تنجلي في ضوء سرّ الكلمة إبن الله الذي "تجسّد من أجلنا ومن أجل خلاصنا" وينجلي في ضوئها لغز الإنسان في حياته وموته (راجع الكنيسة في عالم اليوم، 10 و22).
الولادة والموت مترابطان ترابطًا عضويًّا بتكامل لا ينفصم. فالولادة من حشى الأمّ هي بداية وجود تاريخيّ وأبديّ. الموت هو نهاية الوجود التاريخيّ وبداية الوجود الأبديّ. يعلّم السيّد المسيح هذه الحقيقة في مثل الغنيّ ولعازر.
في الوجود الأوّل التاريخيّ عاش الغنيّ في عبادة ذاته وماله وجشعه وأنانيّته وإهماله للعازر المسكين المطروح أمام باب دارته. فكان وجوده الثاني الأبديّ هلاكًا في جهنّم النار.
أمّا لعازر المسكين فقضى وجوده الأوّل في الصبر والإحتمال والتسليم، ومن دون أن يثور على الغنّي ويسيئ إليه. فكان وجوده الثاني خلاصه الأبدي في مجد السماء.
5. ليست مشكلة الغنيّ في غناه، والغنى من نعم الله وبركاته، ولا في ملكيّته، فهي حقّ طبيعي للإنسان أقرّته الشرائع الإلهيّة والبشريّة (البابا لاون الثالث عشر: الشؤون الحديثة، 6-8)، بل في عبادة ملكيّته وثروته. فكان الغنى الإله الأكبر عنده، إذ راح يبحث عن سعادته في غناه واكله وشربه وتباهيه لا في الله. نقرأ في التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة: "الغنى في يومنا هو الإله الأكبر؛ ويؤدّي له الناس إكرامًا عفويًّا. إنّهم يقيسون السعادة بمقياس الغنى، وبمقياس الغنى أيضًا يقيسون الكرامة، لإعتقادهم أنّ الإنسان الحاصل على الثروة يقدر على كلّ شيء. الغنى إذن صنم من أصنام اليوم (فقرة 1723).
ولعازر المسكين لم ينل الخلاص لأنّه فقير؛ فالله كلّيّ الجودة لا يريدنا فقراء بمعنى العوز والحرمان، بل يريدنا فقراء بالروح، غير متعلّقين بأموال هذه الدنيا حتّى عبادتها، ومتجرّدين، وكأنّنا "لا نملك شيئًا فيما نحن نملك كلّ شيء" (2 كور 6: 10). نال لعازر الخلاص لأنّه ارتضى حالة الفقر، وصبر على محنته، وحمل صليبه دونما اعتراض، واتّكل على عناية الله.
6. إنّ إنجيل الغنيّ ولعازر يستدعي وقفة ضمير أمام الله من قبل من أنعم الله عليهم بخيرات وأموال، إمّا بجهدهم الشخصيّ الشرعيّ، وإمّا بالوراثة العائليّة. هؤلاء مدعوّون لمساعدة الفقراء بشكل منتظم. تعلّم الكنيسة: "أنّ خيرات الأرض معدّة من الله لجميع الناس"، وبالتالي "أنّ الملكيّة الخاصّة مقيّدة برهن إجتماعيّ".
من هذا المنطلق قال القدّيس يوحنّا فم الذهب: "إنّ الإمتناع عن إشراك الفقراء في خيراتنا الخاصّة هو سرقة حقوقهم، واستلاب حياتهم. فالخيرات التي نحوزها ليست لنا، بل هي لهم"…
هذه العظة نُشرت على صفحة البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.