كلمة سيادة المتروبوليت سابا في مؤتمر أبرشيّة نيويورك وسائر أميركا الشماليّة
فينيكس - أريزونا، ٢٧ تمّوز/ يوليو ٢٠٢٣
كلمة سيادة المتروبوليت سابا اسبر، راعي أبرشية نيويورك وسائر أميركا الشماليّة، وعضو اللّجنة التنفيذيّة سابقًا في مجلس الكنائس الشرق الأوسط، في مؤتمر أبرشيّة نيويورك وسائر أميركا الشماليّة، في فينيكس - أريزونا، يوم الخميس ٢٧ تمّوز/ يوليو ٢٠٢٣.
غبطة أبينا البطريرك يوحنّا العاشر الكلي الطوبى والجزيل الإحترام،
السادة الأساقفة الأجلاء،
مصف الإكليروس الموقر،
المحترمون:
أعضاء مجلس أمناء أبرشيتنا المحروسة باللّه
رؤساء الدوائر المختلفة،
أعضاء جمعية القديس إغناطيوس الأنطاكي،
عضوات رابطة النسوة الأنطاكيات،
أعضاء حركة الشبيبة (سويو)،
شبيبتنا الكبار،
أعضاء مجالس الرعايا،
وكل شعبنا المؤمن والعزيز
يسعدني جدا أن أتواجد معكم في هذا المؤتمر العزيز على قلوبنا جميعاً . نلتقي باسم ربنا يسوع المسيح، لنفرح بحضوره معنا، ونفرح بشركتنا سويا به، ونستلهم روحه القدوس في سبيل إنارتنا لخدمة ورفعة وتقدم كنيسته التي ائتمننا عليها.
أوحى إلي شبابنا في مؤتمرات حياة الرعية بالبدء بحديثي إليكم بلاهوت الصورة والمثال الذي اخترتموه عنوانا لمؤتمركم. لقد قدموا أبحاثا غاية في الدقة اللاهوتية، وتبشر بمستقبل أرثوذكسي واعد لأبرشيتنا. زادهم اللّه من نعمه، وباركنا بهم وبأمثالهم.
خلق الإنسان
"وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كمثالنا، وليتسلّط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع وحوش الأرض وكلّ ما يدبّ على الأرض"(تك1/26).
تكمن فرادة الإنسان، التي تميّزه عن سائر المخلوقات الأخرى، في أنّه مخلوق على "صورة الله"، وفي أنّ فرادته لا تُحَدّ في "الصورة الإلهية" فقط، بل في أنّ هذه الصورة مدعوة إلى أن تصير على مثال الله. هذا ما عرفه اللاهوت المسيحي منذ البدء. لقد نادى القديس إيريناوس أسقف ليون (130-202) منذ القرن الثاني بأنّ «مجد الله هو الإنسان الحيّ».
يجمع بعض آباء الكنيسة بين الصورة الإلهية أو «الايقونة» التي خُلق الإنسان بموجبها، وبين مجمل طبيعته، باعتباره كيان واحد يوحّد كلّ التقسيمات التي عرفتها الثقافة البشرية، كالروح والنفس والجسد. يعتبر آباؤنا أنّ "الصورة" هي المظهرَ الأسمى للإنسان، الإنسان بروحه وفهمه الروحي. يقول القديس غريغوريوس النزينزي: "كوني ترابا أتعلق بحياة هذا الدهر، ولكن كوني أيضا قطعة إلهية، أحمل فيَّ رغبة الحياة العتيدة". هذا الفهم الذي يحصل الإنسان بواسطته على معرفة الله، وبواسطته يعيش في شركة مع الله.
هذا يعني، بحسب إيماننا، إنّ صورة الله في الإنسان هي ما يميّزه عن الحيوان، ويعبر عنها من خلال: الحرّية، القدرة على الاختيار والتغيير، معرفة الخير والشرّ، قدرة الإبداع، القدرة الخلّاقة، إعادة تقديم العالم بعد تجليه، التسبيح....إلخ. لكن فكر الآباء يتحاشى تحديد صورة الله بأي جزء من أجزاء الكائن البشري.
إلى ذلك ثمّة تمييز واضح أيضاً ما بين الصورة والمثال؛ يعتبر اللاهوت المسيحي، الأرثوذكسي بالتخصيص، أنّ الصورة هي إمكانية الإنسان لأن يحيا في الله، أمّا المثال فهو تحقيق هذه الإمكانية. وبتعبير المطران كاليستوس وير (1934-2022) الصورة هي ما يملكه الإنسان منذ البدء، وما يؤهله للدخول في الطريق الروحي، بينما المثال هو ما يهدف لأن يحصل عليه في نهاية رحلته. كتب المعلّم أوريجنّس (184-253): «لقد حصل الإنسان على شرف الصورة منذ الخليقة الأولى. ولكن ملء الكمال للتماثل مع الله سيُمنح له فقط عند إنقضاء كلّ الأشياء عندما يصبح الله الكلّ في الكلّ».
إيماننا بأنّ الإنسان مخلوق على صورة الله، يعني إيماننا بأنّ الإنسان مخلوق ليكون في شركة واتّحاد مع الله. وأنّه لن يصير إنساناً بالمعنى الأصيل إذا ما رفض هذه الشركة. لا يمكن أن يوجد «إنسان طبيعي» بمعزل عن الله. الإنسان المنقطع عن الله هو في حالة غير طبيعية. يعني إيماننا بالصورة إذن إنّ الله هو مركز كيان الإنسان، وبكلام آخر إنّ العنصر الإلهيّ هو العنصر المحدِّد لإنسانيتنا: إذا فقدنا صلتنا بما هو إلهيّ فإنّنا نفقد صلتنا بما هو إنساني أيضًا.
يتفرّد اللاهوت الأرثوذكسي بالقول بأنّ الإنسان ليس مخلوقاً على صورة الله فقط، ولكن بشكل أخصّ على صورة الله الثالوث. بما أنّ صورة الله في الإنسان هي صورة ثالوثيّة، فإنّ الإنسان، على غرار الله، يحقّق طبيعته الحقيقيّة من خلال حياة شركة متبادلة. تعني الصورةُ العلاقةَ، ليس مع الله فقط، بل ومع الأشخاص الآخرين أيضاً. كما تعيش الأقانيم الإلهية الثلاثة: الواحد في الآخر والواحد من أجل الآخر، هكذا الإنسان، المصنوع على الصورة الثالوثية، يصبح شخصاً حقيقياً، إذا ما نظر إلى العالم من خلال أعين الآخر، وإذا ما تبنّى أفراح وآلام الآخر.
كلّ كائن إنساني فريد، ولكن كلٌ، في فرادته، مخلوقٌ ليكون في شركة مع الآخرين. من هنا يعرف التقليد الأرثوذكسي الكهنوت الشركوي لا العازب: يعيش الإنسان في شركة زوجية عائلية أو في شركة رهبانية عائلية.
السقوط
هل خسر الإنسان الصورة الإلهية بسقوط آدم وحواء؟ لا يقول اللاهوت الأرثوذكسي بالخسران الكلي بل بغشاوة الصورة أو ضبابيتها. ما الذي حصل بالإنسان بسبب سقوطه من الفردوس، أي من الحضرة الإلهية؟ ما حدث هو أنّه لم يعد قادرا على رؤية المكانة التي خُلق عليها، ولذا لم يعد قادراً على معرفة المثال الذي يتوجّه إليه. بابتعاد الإنسان عن الله تشوّهت صورة الله فيه، لكنّها لم تتلف قطّ، لم تزول أو تمحى.
سقط لأنّه اختار الوصول إلى المثال بالاعتماد على ذاته من دون الله. لنتمّعن بكلمة سفر التكوين: "يوم تأكلان منها تصيران كآلهة تعرفان الخير والشر" (تك3/5). بابتعاد الإنسان عن مصدره فقد التزود بما يُحيي الصورة الإلهية وينّميها فيه .
تقول كلمات إحدى الترانيم الأرثوذكسية في خدمة الجنّاز: "أنا مثال صورة مجدك الذي لا يوصف، وإنْ كنتُ حاملاً آثار الزلّات". لا نزال نَحِنُّ إلى أصلنا ولو لم نعد نعرفه، بالضبط، لأنّنا لا نزال نحمل صورة الله، أو بالأدّق آثارها، ولذلك فإنّنا لا نزال نحتفظ بإرادة حرّة، ولو أنّ الخطيئة تقيّد إرادتنا الحرّة هذه.
قال القديس يوحنا كرونستادت (1829-1909): "لا نخلطنّ أبداً بين الإنسان المخلوق على صورة الله والشرّير الذي فيه، لأنّ الشرّير ليس إلّا عثار، مرض، خيال شيطاني. أمّا جوهر الشخص فهو صورة الله، وهذه بقيت فيه على الرغم من أيّ تشويه". ترفض الأرثوذكسية أيّ تفسير للسقوط لا يترك مجالاً للحرية البشرية.
كيف ترى الأرثوذكسية الحالة التي سقط الإنسان منها؟ كتب القديس إيريناوس الليوني: "أُعطي الإنسان الوجود كي ينمو وينضج، ويصبح قوياً، ويصل إلى ملء التمجيد، ويتمجّد ويصير قادراً على معاينة الله". بحسب القديس إيريناوس كان الإنسان في حالته الأصلية في طفولة روحية وبراءة وبساطة مقترنتين مع طهارة خلقية. كان عليه أن يصل إلى المثال الإلهي من خلال مسيرة بطيئة. لا يرى القديس إيريناوس سقوط الإنسان تمّرداً تامّ النضج، بل بالأحرى رغبة متهّورة وغير ناضجة وقبل أوانها.
أمّا القديس ايرونيموس (+420) فيعتبر أنّ الإنسان كان، عند خلقه الأول، «مثل طفل» بحاجة «لأن ينمو» في الكمال. بتعبير آخر: كان الإنسان عند بداية خلقه بريئًا وقادراً على أن ينمو روحياً (الصورة) ولكن نمّوه هذا لم يكن آليّاً، وإنّما ثمرة تعاونه مع النعمة الإلهية. وهكذا بواسطة حُسن استعماله للإرادة الحرّة، خُلق ليصبح كاملاً، في الله وبواسطته، ببطء، تدريجيًّا، وهذا هو «المثال». من هذه النظرة نرى صورة الله في الإنسان بمعنى حركيّ، لا سكوني.
باختصار وتبسيط، نفهم بالصورة إذن أنّ شيئًا من الله موجود في الإنسان. والإنسان مدعو، بالتعاون مع الله، إلى تنمية هذه الصورة حتّى تصل إلى مثالها الإلهيّ.
طريق النمو
من فقد بوصلة السفر مضطرٌ لأن يبحث عن طريق ما للعودة. لم يترك الله مخلوقه يتخبّط في نتائج سقوطه، بل سارع إليه بذاته وفتح طريق الخلاص له. "إن أحبّني أحد يحفظ كلامي"(يو15/9). وعندما سئل ما هي الوصايا العظمى؟ أجاب: "أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك... وأحبب قريبك كنفسك" (مت22/37).
حفظ الوصايا ينقي النفس ويبعدها عن أسباب الخطيئة. بقدر ما تتنقّى النفس تصبح قابلة لاستقبال نور الله ونعمته. لذلك تشدّد الكنيسة الأرثوذكسية على التوبة، التي تعني حرفياً "تغيير الذهن"، وتزوّد المؤمنين بوسائل هذا التغيير حتّى يصيرون، بالنعمة الإلهية، مساكن قابلة لاستقبال الربّ فيهم. وتبلغ صورة الله فيهم إلى مثالها الإلهي. الأسرار الإلهية، الصلوات، خبرة الشفاء الروحي، العقيدة القويمة الرأي، استمرار الصلة بالكنيسة الأولى أو ما نسميه "الإيمان المسلَّم للقديسين"، الإيمان المستقيم....إلخ، كلّها وسائل أساسية لبلوغ النقاوة والدخول في الاستنارة وذوق التأله.
من هنا نفهم دور الكنيسة ورسالتها. فكنيسة المسيح هي كرمته. قال لنا "أنا الكرمة وأنتم الأغصان. من ثبت في يأتي بثمر ومن لا يأتي بثمر ينزعه الكرّام". وقال بولس الرسول "الكنيسة جسد المسيح". و لا بدّ من أن ننتبه هنا إلى أن جسد المسيح حيّ لا ميت. ثمّة اتّحاد عضوي بين المسيح وكلّ عضو في الكنيسة، واتّحاد عضوي بالمسيح بين كلّ عضو والأعضاء الأخرى.
ليست الكنيسة إذن مؤسسة من هذا العالم ولا جمعية إنسانية أو اجتماعية أو خيرية مهما كانت راقية ومهما كانت إدارتها رفيعة. الكنيسة جسد المسيح الحيّ الممدود في هذا العالم. إنّها المستشفى الذي يعالج الإنسان الساقط ويشفيه من أمراضه الكثيرة . إنّها الواحة التي يجد فيها الإنسان الحياة بملئها، الحياة التي خُلق فيها وعليها، لأنّ ربّ الحياة حيّ فيها وهو يُحييها.
من هنا نفهم أنّ التركيز على حياتنا في المسيح، أو ما درجت تسميتها بحياتنا الروحية، هو رسالة الكنيسة الأساسية والأولى. قال ربّنا في إنجيله: "أتيت لتكون لكم حياة، ولتكون لكم أوفر (ملء الحياة)" (يو 10/10).. منح الحياة الحقّة وتغذية الإنسان بها هي رسالة الكنيسة الأساسية. أمام التحدّيات الإيمانية المتنوعة والمنهمرة بغزارة في هذه الأيام، ما من خدمة أكثر فائدة من تغذية المؤمنين ودعمهم روحياً.
كيف ننطلق من لاهوت الصورة والمثال هذا لنعكسه على أبرشيتنا وواقعها ومستقبلها؟ الجواب الموجز هو أن رسالتها هي الصورة ورؤيتها هي المثال. وبشكل أوضح فإننا نقول:
ما قد أعطيناه في هذه الأبرشية من بركات وإمكانات وقدرات بشرية وروحية ومادية وتنظيمية هو "الصورة" التي أنعم الله بها علينا، أما ما نطمح إليه من تطلعات وتقدم ونمو على كل الصعد الروحية والتقديسية والبشرية والمادية والتبشيرية والخدمية فهو "المثال" الذي نصبو إليه ونجاهد من أجله.
وإذا أردنا أن نحدد ما هي الصورة الحالية، علينا أن نعرف أولاً، ما هي الأمور الثمينة التي نملكها؟ وبماذا أنعم الله علينا في هذه الأبرشية؟ ولعل المناسبة هنا، تسمح بأن نعدد بعضا منها، ونشكر الله عليها. فماذا عندنا إذا؟ إليكم بعضا مما لاحظته خلال إقامتي القصيرة بينكم:
- لقد تباركنا بأبرشية قد اكتملت أسسها العملية. وإذا ما استعملنا لغة الهندسة، نقول أن بنيتها التحتية أو أساساتها صارت مكتملة بجهود وثبات وأتعاب وتقدمات من سبقونا من قديسين ومطارنة وكهنة ومؤمنين. فكل رعية لها كنيستها التي تصلي فيها وبيت الرعية الذي تقام فيه فعاليات حياة الشركوية المتنوعة.
-إننا مباركون بشعب محب لله، غني بإيمانه وتقواه وغيرته وسخائه على الكنيسة واستمرارها وديمومة وجودها كمحور لحياته.
-إننا مباركون بعدد من الأساقفة ومئات من الكهنة والشمامسة الغيورين والمحبين لله ولشعبه، الذين يفنون ذواتهم في خدمة رعاياهم، ويسعون لتمتين الحضور الأنطاكي الشاهد في هذه القارة.
-إننا مباركون بدوائر عديدة تهتم وتنظم أمور الأبرشية الروحية والرعوية والحياتية والاقتصادية بلياقة وترتيب.
-إننا مباركون بمتطوعين كثر مستعدون لخدمة الكنيسة بكل إخلاص وتفان وحيثما تدعوهم الخدمة.
-إننا مباركون بأخويات للسيدات والشبيبة ناشطة، ولدينا أشخاص معطاؤون وأسخياء لسد حاجات الكنيسة والإخوة.
-إننا مباركون بالقرية الأنطاكية التي هي بمثابة قلب للأبرشية النابض بالحياة، وملتقى أبنائه، والمكان الذي يساهم في وحدتها.
- إننا مباركون ببرامج دراسات لاهوتية تعنى بتعميق معرفة الإيمان في نفوس المؤمنين والمهتمين، وتؤمن الدراسة اللاهوتية اللازمة لكهنة وشمامسة ورعاة المستقبل.
-إننا مباركون ببعض من الأملاك متواضعة جدا ومنثورة هنا وهناك في مختلف أرجاء الأبرشية.
-إننا مباركون بإرساليات كثيرة في أرجاء أميركا الشمالية، وإقبال ملموس على المسيحية الأرثوذكسية. إحدى الدوائر الإحصائية الأميركية اعتبرت مؤخرا أن الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية هي الأسرع نموا بين الكنائس المسيحية في أميركا الشمالية
لدينا، إذن، إرث كبير تراكمي تركه لنا الذين سبقونا ويعمل أبناؤنا على تفعيله وتنميته. لكن هذا الإرث العظيم يحتاج إلى الحفاظ عليه وصيانته وديمومته، من جهة، ولكنه على أهميته، يحتاج إلى الكثير من العمل ليزداد وينمو ويتطور ويستجيب لمتطلبات الشهادة في أيامنا هذه. لذلك فإن السؤال الأهم والملح بالنسبة لنا، ‘ن أردنا أن نكون شهودا مخلصين للسيد هنا والآن، هو كيف تنمو الصورة التي لدينا باتجاه المثال المنشود؟
التحديات
قبل أن نجيب على هذا السؤال، علينا أن نعرف التحديات والعوائق التي تواجهنا. يسألني الكثيرون منكم ما هي الخطة التي تعدها لنا، أي للأبرشية. فأجيبهم: أحتاج إلى سنة تقريبا لأعرف أوضاع الأبرشية كما هي على الأرض وتحدياتها وتطلعاتها، وأصغي إليكم وأسمع ما عندكم، كي أبني وإياكم رؤية واضحة شاملة، حالمة وواقعية في الوقت ذاته، ومن ثم نبادر إلى وضع الخطة المطلوبة والمدروسة بدقة، وبعد ذلك نبدأ بوضع الآليات التنفيذية.
غير أن ما تقدم، لا يعني أننا لا ندرك التحديات التي تواجهنا، والتي يجب ألآ تغيب عنا. لنعدد بعضا منها
- الدهرية، وهي التحدي الأول. الدهرية هي ثقافة مجتمع تقوم على تحرر مختلف ميادين الحياة (السياسية والاجتماعية والثقافية والقيمية...) واستقلالها التام عن الميدان الديني. الإنسان الدهري يعيش بحسب قيم هذا العالم الذي لفظ الله، عالم يفتش عن صورته الأصلية التي فقدها عندما رفض الله؛ مصدره. ما من مرجع للإنسان في هذه الثقافة سوى ذاته. الإنسان مصدر ومرجع كل شيء. لم يعد لله من مكان في تنظيمات الحياة البشرية.
-لذلك باتت هذه الثقافة الحاكمة تفرز أنماطا من الحياة مختلفة عما اعتدنا عليه سابقا. يواجهنا مجتمع العمل المضني والاستهلاك المفرط والفضاء المفتوح والحريات الشخصية التي تتجاوز كل المحرمات المعروفة سابقا. تنتهك القيم الأخلاقية الجديدة حرمة بيوتنا وعائلاتنا وإيماننا. بات البعض يشعر بأننا بتنا في مجتمع معاد للمسيحية. ثمة سؤال تردد في عدة رعايا من التي زرتها: كيف يتعامل المسيحي مع عدوه. وعندما سألت أخيرا من تقصدون بعدوكم. كان الجواب إننا نشعر بأن المجتمع بات يعادينا لأننا مسيحيين.
-في عدة رعايا بتنا نشهد ابتعادا عن الكنيسة هنا وهناك، وخاصة في أوساط الشبيبة المتربية في كنف هذه الثقافة. سؤال واحد مشترك أسمعه في معظم زياراتي الرعوية: ماذا نفعل كي يأتي أولادنا إلى الكنيسة؟
-التحدي الثاني، أي النسبية، وهو وليد الأول. لعل أخطر ما في هذه الثقافة أنها ترفض حق الإنسان في العيش وفق ما يعتبره حقيقة مطلقة. صارت النسبية هي المعيار. ما يناسبك هو الحقيقة بالنسبة لك وما يناسبني هو الحقيقة بالنسبة لي. هُمشت المرجعيات بما فيها الله والعائلة والكنيسة، وبات الإنسان عرضة لكل أنواع الميول الشائعة ((Trends والتلفيق الديني.
هذا على المستوى العام، أما على المستوى الكنسي، فتواجهنا تحديات يفرضها الزمن الذي نعيش فيه، من بينها:
-الانفصال بين اللاهوت والحياة. بات المجتمع الدهري المؤثر الأهم في رسم نمط الحياة، لا المجتمع الديني. ونتيجة لهذا صارت ظاهرة التدين أقوى من ظاهرة الحياة الحية مع الله. يكتفي التدين بممارسة طقوس وشعائر وعادات وفولكلور ديني، بينما الإيمان الحي يتطلب تغييرا في النفس الإنسانية ونموا وامتلاء من حضرة الله.
-أزمة في أعداد طالبي الكهنوت. لدينا حوالى 456 كاهنا بين متقاعد وفاعل. المعدل الوسطي لأعمار الكهنة العاملين هو 60 سنة. مما يعني إننا، بعد خمس سنوات، سنواجه أزمة في تأمين كهنة لمتابعة عمل المسيح التقديسي في رعايانا
-بداية أزمة مالية، بسبب البطالة الناتجة عن التدهور في الاقتصاد، وغلاء في المعيشة، تراجع الطبقة الوسطى. بدأت بدايات تقهقر الرفاهية تظهر هنا وهناك. ثمة شبيبة من بين أولادنا لم تعد مهتمة بالعمل من جراء البون الشاسع بين مداخيل أرباب العمل ومداخيلهم الأقل من متواضعة. إلى ذلك أسمع هنا وهناك تخوف من تقاعد كاهن يخدم بلا مقابل، لأن الرعية غير قادرة على تأمين معيشة كاهن جديد. هذا إلى جانب بعض طلبات مساعدة مالية شهرية لهذه الرعية أو تلك التي باتت تصل المطرانية في السنوات الأخيرة. وأتكلم هنا عن رعايا لا عن إرساليات.
-ضعف التنسيق والتكامل: ثمة علامات، لا تزال ضعيفة، لكنها تنذر بتهديد الوحدة الداخلية للأبرشية مستقبلا إذا لم نتنبه لها منذ الآن. ما من تنسيق كاف وتكاملي بين الدوائر العاملة في الأبرشية. ثمة مبادرات حسنة النية تظهر بين الفينة والأخرى لكنها محلية الطابع وتنحو إلى حفظ نفسها في استقلالية عن مركز الأبرشية ورأسها، كما أنها مفصلة على قياس من يقوم بها لا على قياس ديمومتها ونموها لتكون في خدمة كل أبناء الأبرشية.
-عدد ليس بقليل من الكنائس والهيئات لا تصرح عن مدخولها الحقيقي. هذا خلق جوا من اللا ثقة وعقلية تهتم بما هو محلي فقط. ممارسات كهذه ستسبب، آجلا أم عاجلا، أذى عظيم للأبرشية. وهذا الأذى سينتقل، لا محالة، إلى الرعايا والمؤسسات وسيضعفها.
-الفهم الخاطئ للعضوية في الكنيسة: هنا وثمة لدينا تعاط كنسي تغلب عليه روح العضوية المعروفة في الأندية والجمعيات، لا في كنيسة المسيح. هذا ينعكس في الرعاية بشكل خاص، فيصبح الافتقاد مفقودا، ودفء الجسد الواحد ضعيفا، فلا يشعر المؤمن باحتضان الجماعة له. العضوية في كنيسة المسيح عضوية عائلية، عضوية كيانية، جسد واحد. الاشتراك المالي أحد وجوه تعبيراتها، وليس التعبير الأوحد.
أكتفي اليوم بهذه التحديات، لأنتقل إلى الحديث عن بعض الرؤى والتطلعات بغية الوصول قريبا إلى رؤية شاملة نضع خطة العمل استنادا إليها
بعد 130 سنة على وجودنا في هذه الأرض المباركة، بات لزاما علينا تفعيل خدمتنا لهذه الأرض التي أعطتنا الكثير، وتجذير شهادتنا المسيحية فيها.
-نحتاج إلى البدء ببناء مؤسسات كنسية قائمة على لاهوت الشهادة المسيحية. ما هي هذه المؤسسات؟ وكيف نحدد الأولوية لهذه على تلك؟ الجواب يحتاج إلى صلاة وتفكير وحوار. لا تحتمل الأبرشية مشاريع ومبادرات غير مدروسة بشكل كاف ولا تأخذ بعين الاعتبار احتمالات النجاح والفشل.
-أمام تراجع الوضع الاقتصادي نحتاج إلى تثبيت وتقوية موارد الأبرشية المالية. فمداخيلنا لا تزال تعتمد على موارد محددة ومحدودة. لا يزال أمامنا فرصة للبدء بإنشاء أوقاف متنوعة ومؤسسات لها وجه شهادي خدمي واستثماري في الوقت ذاته. نحتاج إلى البحث عن فرص استثمار جديدة. كذلك لا يخطئ المثل القائل "لا تضع كل البيض في سلة واحدة".
-أبرشيتنا متعددة الثقافات، علينا أن نحترم كل الثقافات. علينا أن نتعلم كيف توحد الكنيسة كل التنوعات وتشفي كل الانقسامات بواسطة الحياة في المسيح والانتماء إليه. الاقتداء بخبرة أنطاكية التي وحدت بين الآتين إلى المسيح من الخلفيتين اليهودية والوثنية. ظلت أنطاكية لقرون طويلة تصلي باليونانية (المدن المتحضرة والساحل) والسريانية (في الداخل) والعربية (في الجنوب) والأرمنية (في الشمال).
-علينا أن نجدد خدماتنا الرعوية. فنسعى وراء البعيدين عن الكنيسة لئلا يبقون بعيدين عنها طوال حياتهم. وأن نسعى وراءهم طلبا لخلاص نفوسهم. نحتاج إلى أن نبحث عما يحتاجه الإنسان المعاصر فنبتكر رعاية جديدة ترفد الرعاية التقليدية. فالرعاية القائمة على كاهن أو أكثر للرعية لم تعد كافية في عالمنا الحالي الذي يتسم بالتخصص الدقيق. نحتاج إلى ابتكار رعاية خاصة تأخذ بعين الاعتبار التحديات الإيمانية التي تواجهها كل فئة عمرية وكل فئة مهنية.
-نحتاج أيضا إلى تطوير ثقافة تكامل. علينا أن نقبل بفرح أننا نكمل بعضنا بعضا. فلا نعود ننظر إلى أي خدمة أو نشاط مختلف عن الذي نقوم به وكأنه منافس لنا. نحتاج إلى أن نعي أننا نحيا ملء كنيسة المسيح في رعيتنا أو أبرشيتنا، وأن نعي جيدا أيضا أن كنيسة المسيح أوسع من رعيتنا وأبرشيتنا.
-في عالم بات مفتوحا ولا حدود فيه، نحن بحاجة إلى مزيد من التفاعل مع غيرنا من الأبرشيات الأخرى وخاصة الأنطاكية. فتبادل العلاقات والخبرات على صعد مختلفة، بات ضرورة في عالمنا الحالي. ما من أحد يعيش وحده. لنبنِ سويا بحكمة علاقات جيدة مع العائلة الأرثوكسية الأنطاكية.
-العطش الروحي الذي ألمسه في زياراتي الرعوية للرعايا يتطلب منا أن نصلي بحرارة حتى يرسل لنا الله رهبانا وراهبات، فتنتعش الأبرشية بصلاتهم وجهادهم الروحي وتكون أديرتهم واحات تعزية وتقوية لشعبنا المؤمن،
-لأن الكنيسة واحة في صحراء هذا العالم، يتطلب منا بذل جهد في تنشئة كهنة بحسب قلب المسيح . كهنة يكونون قدوة للشبيبة بخاصة، ليتأكدوا من أن الله وحده يكفي إذا عرفنا محبة المسيح حقا. علينا البدء بحملة لبث محبة الكهنوت في نفوس شبابنا. شهادة الكاهن المخلص والمتفاني في خدمة رعيته تؤثر في نفوس الشباب وتحببهم برسالة الكهنوت السامية…
هذه الكلمة نُشرت على صفحة بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.