عظة غبطة البطريرك يوسف العبسي لمناسبة عيد الشعانين
ترأّس غبطة البطريرك يوسف العبسي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك، اللّيتورجيا الإلهيّة المقدّسة لمناسبة عيد الشعانين، يوم الأحد 2 نيسان/ أبريل 2023، في كاتدرائيّة سيّدة النياح، حارة الزيتون، دمشق - سوريا.
وجاء في غبطة البطريرك يوسف العبسي:
تحتفل الكنيسة في هذا الأحد السابق لأحد القيامة بدخول ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح إلى مدينة القدس حيث قضى أيّامه الأخيرة وتألّم وصلب ومات وقام. تحتفل بهذا الحدث التاريخي الّذي ورد في الإنجيل ورواه الإنجيليّون الأربعة دلالة على أهميّته في حياة يسوع على الأرض وفي مسيرته الخلاصيّة. نحن نعلم من الإنجيل أنّ الربّ يسوع سبق وأعلم تلاميذه ورسله أكثر من مرّة بأنّه سوف يتألّم ويموت ويقوم في اليوم الثالث وفي كلّ مرّة كان يصعب على التلاميذ والرسل أن يفهموا أو يصدقّوا ما كان يقول لهم لأنّ تصوّرهم له، تصوّرهم للمسيح، كان تصوّرًا مختلفًا كتصوّر جميع اليهود. كانوا يتصوّرون أنّ الربّ يسوع هو المسيح الموعود المنتظر الّذي سوف يبني مملكة أرضيّة، يقيم ملكًا زمنيًّا يكون لهم فيه حصّة كبيرة، مناصب عالية وأدوار رئيسيّة. تذكرون على سبيل المثال طلب أمّ ابني زبدى لولديها أن يكون الواحد عن يمين يسوع والثاني عن يساره في ملكه. وتذكرون أيضًا سؤال الرسل ليسوع من بعد قيامته بين الأموات: "أفي هذا الزمان تردّ الملك إلى إسرائيل؟".
اليوم، جاء الوقت لكي يفهموا (الرسل) ويوقنوا بوضوح ما كان ينبئهم به معلّمهم، ما هدف الرب يسوع وما هو تدبيره الخلاصيّ. اليوم حان الوقت ليدخل المسيح في مرحلة الآلام والموت التي كان يكلمهم عنها. لكنه قبل أن يُقبل على ذلك أراد أن يطمئنهم، إذا صح التعبير، أراد أن يقول لهم إذا ما شاهدتم ما سيحصل لي لا تقلقوا ولا تخافوا ولا تيأسوا ولا تشكوا فيّ بل اثبتوا واصمدوا حتى النهاية التي سوف تتكلّل بقيامتي من بين الأموات.
اليوم قبل مرحلة الآلام، أراد الرب يسوع أن يُري تلاميذه ورسله قدرته وعظمته، أراد أن يدخل إلى مدينة القدس رمز القوّة والعنفوان اليهوديين بقوّة وعظمة ليقول لهم إنّ الآلام التي سيتحملها إنما هي بإرادته وطوعه واختياره، يذهب إليها ويتحمّلها بفعل قوّة لا عن ضعف لأنّ هذه الآلام التي سيفتدي بها خطايانا وآثامنا والتي سوف تتيح لنا أن نحصل على الخلاص وعلى العودة النهائية إلى الله تعالى. ولكي يدعم ذلك ويزيد البرهان برهاناً أجرى الرب يسوع قبل الدخول إلى القدس معجزة باهرة كبيرة أمام جماهير غفيرة، أقام لعازر من بين الأموات بعد أن كان مات ودفن أربعة أيام في القبر. أقام الرب يسوع لعازر لكي يثبت رسله وتلاميذه في إيمانهم به بالإضافة إلى تثبيته لهم اليوم بدخوله المظفّر إلى
مدينة القدس.
لذلك ترى الكنيسة أن دخول السيد المسيح إلى القدس بالظفر وإقامة لعازر من بين الأموات وقيامة يسوع من بين الأموات، ترى أنّ هذه الأحداث الثلاثة، تشكل وحدة متماسكة ومتكاملة بإزاء آلام السيد المسيح وموته، تؤلّف وحدة تحوّط هذه الآلام من بدايتها إلى نهايتها وتضعها في الموضع الذي يجب أن توضع فيه في حياة يسوع وفي تدبيره الخلاصي وتعطيها معناها الحقيقي الأخير والنهائي، أعني أن الآلام هي مرحلة عابرة، في حين أنّ القيامة واقع دائم. السيد المسيح تألّم ومات مرة واحدة يقول لنا القديس بولس ولن يعود إلى ذلك لكنه قام من بين الأموات وهو قائم على الدوام وحيّ على الدوام أمس واليوم وغدًا يردف بولس أيضًا. موت الرب يسوع دام أيّامًا قليلة، ثلاثةً أمّا قيامته فأبديّة. ولقد كان من الضروري أن يعرف الرسل ذلك وأن يعرف ذلك كل واحد من بعدهم أن نعرف نحن ذلك. قام الرب يسوع ولن يذوق الموت من بعد وهذا هو الأساس وما الدخول إلى القدس اليوم وبعد إقامة لعازر سوى إشارة إلى هذه القيامة الدائمة لأنّ هذا الدخول الذي حصل كان دخول الغالبين. كل هذا مختصر في نشيد العيد الذي أنشدناه والذي يجمع بين هذه الأحداث كلّها بقوله: "أيها المسيح الإله لما أقمت لعازر من بين الأموات قبل آلامك حققت القيامة العامة من أجل ذلك نحن أيضا مثل الأطفال نحمل رايات الظفر ونهتف إليك يا غالب الموت هوشعنا في الأعالي مبارك الآتي باسم الربّ". هذه الحقيقة هي التي تبهج قلوبنا اليوم وتجعل الكنيسة تتلو على مسامعنا قول الرسول بولس إلى أهل فيليبي داعية إيانا إلى الفرح: "يا إخوة افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضًا افرحوا".
يخبرنا الإنجيلي يوحنا الذي سمعناه الآن أنّ اليهود الذين جاءوا لاستقبال يسوع جاءوا أيضًا ليروا العازر الذي أقامه من القبر. هؤلاء الذين هبّوا اليوم لاستقبال يسوع تفكيرُهم هم أيضًا من مثل تفكير الرسل والتلاميذ. كانوا يرون في الرب يسوع مسيحًا من نسيج خيالهم وأحلامهم وتصوّراتهم. لذلك ارتدّوا عنه كما ارتد الرسل لمّا رأوه يتألم ويصلب ويموت ويدفن أما نحن الذين أتينا اليوم لاستقبال يسوع فأي مسيح أتينا لاستقباله؟ هل أتينا لاستقبال يسوع كما هو أو كما نريد نحن أن يكون؟ غالبا ما نهرب من ضعفنا، من تقصيرنا، من خطيئتنا، من حقيقتنا المرّة أو نبرّر هذه بتصوّر مسيح أقرب إلينا مما إلى نفسه. بهذه الطريقة نمسح صورة المسيح شيئًا فشيئًا فلا يعود لها وجود هذا ما يصنعه العالم اليوم بشتى الوسائل. يحاول العالم اليوم أن يطمس صورة المسيح الحقيقية بتقديم صور له مخالفة لصورته أو حتى بمحو هذه الصّورة…
هذه العظة نُشرت على صفحة بطريركيّة الرّوم الملكيّين الكاثوليك على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.