عظة غبطة البطريرك يوسف العبسي في أحد القيامة 2023

تجدون في التالي عظة غبطة البطريرك يوسف العبسي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، في الليترجيا الإلهية المقدسة بمناسبة عيد الفصح المجيد 2023، يوم الأحد 9 نيسان/ أبريل 2023، في كاتدرائية سيدة النياح حارة الزيتون.

المسيح قام!

بهده التحية الفصحية التي تختصر إيماننا المسيحيّ أحييكم أيها الأبناء الأحبّاء، شاكرًا معكم لله تعالى أنّه قدرنا على أن نجوز شوط الصيام المقدّس وأسبوع الآلام الخلاصيّة بأعمال التوبة واليرّ، بالرحمة والمحبة، بالصوم والصلاة والصدقة، وعلى أنّه بلغ بنا إلى هذا اليوم الكبير، يوم قيامة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع بالجسد من القبر، من بين الأموات محتفلين به مع الكنيسة الجامعة بالسرور والتهليل ومنشدين للناهض من بين الأميات: "المجد لقيامتك المقدّسة يا رب".

من بعد ما كنّا احتفلنا يوم الخميس بآلام السيد المسيح وصلبه وموته ويوم الجمعة بدفنه، احتفلنا بالأمس السبت بنزوله إلى الجحيم، إلى المكان الذي يعتقد العهد القديم بأنّه مقر الأموات، بأنّه "الجب الأسفل حيث الظلمات وظلّ الموت" ، كما يصفه صاحب المزامير، احتفلنا البارح بنزول السيّد المسيح إلى العدم حيث لاحياة ولانور، لارجاء ولامستقبل، ليضيء وينتشل من كان هناك من الراقدين وعلى رأسهم أبوانا الأوّلان آدم وحواء كما تصوّره إيقونة العيد. نزل السيّد المسيح إلى الجحيم، إلى العدم، ليقيم معه أدم وحواء والبشريّة جمعاء ليقيم يعني ليعيد جبلة الإنسان كما تقول في صلواتنا الليترجيّة، ليجبل الإنسان من جديد، ليجعل منه "عجينًا جديداً" (اكور:٥ 7) خليفة جديدة إذ القديم قد اضمحلّ وكلّ شيء قد تجدد (۲کور 5: 17)، كما يقول بولس. قام السيّد المسيح من بين الأموات ليخلُق الإنسان الجديد الذي لن يكون للموت عليه من بعد سلطان (كول ۱ ۱۳ وعب4: 2٤) الذي لن يذوق الموت من بعُد، الذي لن يعرف العدم من بعدُ، لأنه مخلوق على "صورة خالقه" على "مثال الله"، كما يقول بولس: "البسوا الإنسان الجديد الذي خلق على مثال الله" (أف 4: ٢٤)، "لقد لبستم الإنسان الجديد الذي يجدد بالمعرفة على صورة خالقه (كول٣: ١٠).

أجل أيها الأحبّاء، بقيامة المسيح نحن "خليقة جديدة إذ القديم قد اضمحلّ وكل شيء قد تجدّد" (۱ کور5:۱۷) يقول القدّيس بولس القديم اضمحلّ، زال. هذا يعني أنّ الله لا يرمّم ولا يصلح ما يكون قد تعطّل ما خلق وعجن وكون. الله يخلق ويكون الإنسان خلقًا وتكوينًا جديدًا في المسيح القائم من بين الأموات. في الجحيم حيث نزل المسيح لا شيء للإصلاح أو الترميم إذ الكلّ عدم، اضمحلال، زوال. لذلك من الآن فصاعدًا كلّ شيء جديد لا علاقة له ولا صلة بالقديم المضمحلّ المعدم. هذا ما أعلنه في إنجيل اليوم القدّيس يوحنّا بطريقة أقوى من تلك التي عثر بها القدّيس بولس بقوله، كما سمعنا "أمّا. الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله، الذين آمنوا باسمه الذين لم يولدوا من دم ولا من مشيئة رجل بل من الله ولدوا" (يو١: 12-13). القدّيس بولس تكلّم عن خليقة جديدة، أما يوحنّا فعن ولادة جديدة. وإذا كنّا نعلم من قانون إيماننا أن السيد المسيح هو "مولود غير مخلوق"، مولود من الله، ندرك إلى أي درجة سامية أشركنا الله في حياته الإلهيّة بقيامة ابنه من بين الأموات، درجة أبعد من أن نكون على صورته ومثاله إذ صرنا مولودين منه، وندرك بالتالي في الوقت عينه ما أهميّة القيامة في حياتنا نحن المسيحيين.

هل هذا ممكن؟ هل يقوم الإنسان؟ هل يُخلق من جديد؟ هل يولد من جديد؟ سؤال استنكاريّ طرحه صاحب المزامير على الله منذ القديم بقوله: "اللأموات تصنع المعجزات، أم هم يقومون فيعترفون لك؟ أتُعرف في الظلمة معجزاتك؟ أفي القبر يحدث برحمتك وفي الجحيم بحقك؟" (مز ۸۷). الجواب نعم لقد صنع الله المعجزات للأموات في الظلمة والجحيم وعُرفت معجزاته وتحدّث من هناك برحمته وحقّه عندما نزل السيّد المسيح إلى الجحيم وقضى على العدم وانهضا بقيامته. يشكّك البعض بقيامة الرب يسوع من بين الأموات، والبعض ينفيها نفيًا قاطعًا ويعدها خرافة. صحيح! فالقيامة جمالها شديد بحيث إنّها تبدو ضرباً من الخيال. وأوّل من شكّك الرسل أنفسهم (متی۱۷:۲۸؛ مرقس ١١:١٥)، وفي مقدّمتهم توما الذي جاهر بشکّه وطلب براهين ملموسة مقنعة، بل كان عندهم كلام النسوة اللواتي بشركم بقيامة يسوع "بمنزلة الهذيان" (لوقا24: ۱۱) حتّى إنهّم، يردف لوقا لما "وقف (يسوع) هو نفسه في وسطهم وقال لهم السلام لكم أخذهم الدهش والذّعر وظنّوا أنّه خيّال" (لو24: 36-37). أجل، جمال القيامة الشديد قد يبعث على الشكّ بها وإنكارها. ولكن إن كنا نحن لسنا معتادين أو قادرين على رؤية الجمال الشديد فلا يعني ذلك أنّ هذا الجمال غير موجود. إنمّا لكي نراه يجب أن تكون لنا عين من نوع آخر هي عين الإيمان. وأصحاب هذه العين هم الذين سبق يسوع وطوّبهم بقوله: "طوبى للذين لم يروا وأمنوا"، هم نحن الذين قال يعني عنهم يوحنّا في مطلع إنجيله: "أما جميع الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله هم الذين آمنوا باسمه الذين لم يولدوا من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله" (يوحنا١: ١٢-۱۳) هؤلاء، ونحن منهم، قلبوا المعادلة، إذ قد صار إيمانهم بما يرتّب من حياة إنجيليّة صافية، هو البرهان على القيامة وليس العكس.

البارحة احتفلنا إذن بنزول السيّد المسيح إلى الجحيم، لكن احتفلنا أيضًا بخروجه من هذه الجحيم منتصرًا عليها، منتصرًا على الظلمة والموت والعدم، وأضأنا الكنيسة تعبيرًا عن ذلك وأشعلنا الشموع وقرعنا الأجراس معلنين أن المسيح قام حياةً ونورًا للناس والعالمين. وفي صبيحة هذا اليوم دعتنا الكنيسة نحن الذين أتينا لنشهد ونرى قيامة الربّ يسوع، دعتنا الكنيسة إلى أن ندنو منه و ونأخذ نورًا قائلة: "هلموا خذوا نورا من النور الذي لا يغرب ومجدوا المسيح الذي قام من بين الأموات". الربّ يسوع القائم من بين الأموات هو النور الذي "ليس فيه ظلمة البنة" كما يصفه يوحنا الرسول (١يو١:٥) والذي بقيامته "أنتزعنا من سلطة الظلمة"، كما يقول بولس (كول۱: ۱۳). حملناه اليوم وطفنا به في الكنيسة وخارجها ونطوف به في العالم أجمع "ليضيء للمقيمين في الظلمة وظلّ الموت" (لوقا1: 79). لقد وصف السيد المسيح نفسه بأكثر من صفة. قال إنّه الباب والطريق والكرمة. لكن أجمل وأبلغ وأكثر ما نعت الربّ يسوع به نفسه هو النور: "أنا العالم"، لأن النور هو الحياة كما سمعنا في إنجيل اليوم: "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس" (يو1: ٤) وللتشديد على أهميّة النور في حياتنا قال لنا السيّد المسيح "أنتم نور العالم". لم يقل أنتم الباب أنتم الطريق أنتم الكرمة بل أنتم نور العالم، وقد ردّد بولس هذا الكلام بقوله لنا: "أنتم نور في الربّ" (أف٥: ٨). لماذا النور؟ لأنّ من خاصّة النور أن يُشعّ وينتشر، ولأن القيامة يجب أن تشع وتنتشر. عندما أعلم الملاك النسوة اللواتي أتين يطلبن يسوع في القبر ب "أنه ليس هنا" أردف بقوله: "إمضين في سرعة وقلن لتلاميذه إنّه قد قام من بين الأموات" (متى ۲۸: ۷). رسالتنا، شهادتنا، أيها الأحبّاء، أن نعلن أنّ المسيح قام وختم شهادتنا أن تكون جميعًا، كما يطلب بولس الرسول، "أبناء النور وأبناء النهار لأنّنا لسنا بعد من أهل الليل ولا الظلمة" (1تسا5: 5)، شهادتنا أنّ يعرف العالم أن المسيح ليس في القبر المظلم، ليس في البشاعات البشريّة بل في الجمالات البشريّة: في الابتسامة والفرح والوداعة واللطف والبراءة، في الحنان والخدمة والإحسان، في العدل والسلام والغفران، في ثمار الروح القدس الذي أفيض في قلوبنا من بعد القيامة. شهادتنا أن يعرف العالم أنّ المسيح القائم لا يسكن ما يشبه القبر الصخريّ المظلم، لا يسكن القلوب المتحجّرة المغلقة، ولا العقول المظلمة الضيّقة، بل القلوب المحبّة المنفتحة والعقول النيّرة الرحبة، يسكن الإنسان الجديد الذي حلّ محلّ الإنسان العتيق: "يا إخوة، إننّا جميع من اعتمدنا للمسيح قد اعتمدنا لموته، فدفنّا معه بالمعموديّة للموت، حتى إننّا كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب، كذلك نسلك نحن أيضا في جدة الحياة" (روم ٦: ٣-٤)

يخبرنا الإنجيلي متى (٣٨:١ي) أنّ "زلزالا عظيما" رافق قيامة السيد المسيح من القبر. في الحياة زلازل تحمي وزلازل تُردي. الزلازل التي ضربت بلدنا ومنطقننا وما زالت تتهدّدها كانت للأسف من النوع الذي يُردي. لقد قتلت وشردت ونكبت الآلاف. لكنّا نشكر الله تعالى أنها بعثت زلازل من النوع الذي يحمي في ضمائر الكثير من الناس، من الأفراد والعائلات والمؤسسات والجماعات من مختلف الفئات والديانات ومن الكنائس والدول التي هبت من كل الجهات للمساعدة مظهرة تعاطفًا وتضامنًا محمودين. لها الشكر الجزيل من أعماق القلب. بيد أنّنا ما زلنا في حاجة إلى زلازل أخرى كثيرة كتلك التي حدثت صباح القيامة لتهزّ الضمائر والقلوب التي ما زالت متصلّبة مظلمة متحيّزة لا تعرف للإنسانية معنىً ولا تقيم للأخوة البشرية وزنًا. نصلّي من أجلها لكي يسطع فيها نور المسيح القائم.

نصلّي من أجل ضحايا الزلازل. نصلّي من أجل جميع المواطنين وبنوع خاصّ الذين ما زالوا يقومون بعبادة الصلاة من إخوتنا المسيحيّين والمسلمين أن يتقبل الله صيامهم ويبهجهم بالعيد. نصلّي من أجل المسؤولين عنا، من أجل سيادة الرئيس بشار الأسد ومعاونيه أن يسدّد الرب خطاهم في كلّ عمل صالح. نصلّي من أجل الجيش أن يثبت الله أقدامه ويصونه. نصلّي من أجل العالم كلّه، من أجل أبنائنا المنتشرين في أصقاع الأرض أن يحفظهم المسيح الناهض ويوفقهم وينير دبرهم. نصلّي من أجل كنيستنا وكل الكنائس أن تكون شاهدة على قيامة الرب كما كان الرسل القديسون. نصلّي من أجل أنفسنا، من أجل رعيتنا وأبرشيتنا أن نكون نورًا للعالم يدلّ على المسيح النور القائم من بين الأموات.

أيّها الأحباء، منذ أن قام الرب يسوع من بين الأموات صار لنا نحن المسيحيين نشيد نُعرف به يعبّر عن هويتنا عن إيماننا عن اعتزازنا نشيد لا نتردد ولا نتوقف عن إنشاده: "المسيح قام من بين الأموات ووطى الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور" ، فلننشده اليوم وغدًا لأنّ المسيح قام حقًّا قام.

كل عام وأنتم بخير

† يوسف

هذه العظة نُشرت على صفحة بطريركيّة الرّوم الملكيّين الكاثوليك على موقع فيسبوك.

Previous
Previous

رؤساء الكنائس في القدس يتبادلون التهاني بمناسبة عيد قيامة السيد المسيح من بين الأموات

Next
Next

الرسالة الفصحية البطريركية لعام 2023 لغبطة البابا ثيوذوروس الثاني