عظة غبطة البطريرك يوسف العبسي في الأحد الأوّل من الصّوم

"أحد الأرثوذكسيّة"

في التالي عظة صاحب الغبطة البطريرك يوسف العبسي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك، في الأحد الأوّل من الصّوم "أحد الأرثوذكسيّة"، يوم الأحد 26 شباط/ فبراير 2023، في الكنيسة الكاتدرائيّة، دمشق.

تعـالَ وانظـر (الأحد الأوّل من الصّوم)

يوحنّا 1: 35-51

ها قد انتهينا من الأسبوع الأوّل من زمن الصّوم المبارك. في هذا الأحد الأوّل من الصّوم تعرض علينا الكنيسة جملة من الأفكار الّتي نستطيع أن نتأمّل فيها وأن نعيشها في الأسبوع الثاني ومن بينها الإنجيل الّذي سمعناه والمعروف بإنجيل دعوة الرسول نثنائيل. لتأمّلنا في هذا الأحد انتقيت بعض العبارات الّتي وردت فيه.

1- تعال وانظر

يخبرنا الإنجيل أنّ فيليبّس قال لنثنائيل "تعال وانظر"، داعيًا إيّاه إلى الإلتحاق بالسيّد المسيح. إنّ هذه الطريقة في الدعوة إلى اتّباع يسوع تعلّمنا أمرين. الأمر الأوّل هو أنّ معرفتنا ليسوع لا تحصل نظريًّا، بأن نقرأ عنه ونسمع عنه، بل تحصل معرفتنا ليسوع عمليًّا، بالعيش معه ومعاشرته واختباره. "تعالَ وانظر"، أي تعالَ وجرّب ثمّ قرّر أنت نفسك هل تتبعني أم لا. إنّ يسوع لا يأخذ عنّا القرار ولا يرغمنا عليه بل يتركه لنا.

اتّباع يسوع لا يحصل بأن نجمع أوّلًا عنه معلومات ثمّ نقرّر على ضوئها هل نتبعه أم لا. اتّباع يسوع يحصل بأن ننخرط في الحياة معه، بأن نلتزم بما يقول ويعمل ثمّ ننظر هل نبقى معه أم نعرض عنه. "تعالَ وانظر". لكي نعرف يسوع يجب أن نعيش معه، أن نلمسه أن نسمعه أن نراه. هذا ما قاله يوحنّا حين أخبر عن يسوع قال هذا الذي لمسناه ورأيناه وسمعناه نبشّركم به، لكي لا يبقى يسوع خيالاً أو وهمًا بل حقيقة، واقعًا.

الميزة الثانية في دعوة يسوع لنا هي أنّها ليست دعوة عاديّة، ليست دعوة إلى عشاء أو حفل نلبّيها ثمّ نعود إلى بيتنا، بل إنّها دعوة إلى الإقامة الدائمة مع يسوع، إلى العيش الدائم معه. هذا ما يخبرنا إيّاه يوحنّا الذي روى لنا حادثة اليوم في موضع آخر من إنجيله حين جاء إلى يسوع تلميذان من عند يوحنّا المعمدان وسألاه قائلين "يا معلّم أين تسكن؟" فدعاهما "وأقاما عنده ذلك اليوم". لم يطرح تلميذا يوحنّا هذا السؤال على يسوع ليتفرّجا على بيته، على أثاثه وهندسته، بل ليقيما عنده. هكذا دعوة نثنائيل ودعوة كلّ واحد منّا لا لكي نرى يسوع من باب الحشريّة بل لكي نبقى معه ونتتلمذ له. هذه هي دعوتنا المسيحيّة: أن نقيم مع المسيح، أن نعيش مع المسيح، لا أن نزوره من حين إلى آخر ونعود إلى بيتنا، إلى حياتنا، إلى ما نحن عليه.

2- أمن الناصرة يخرج شيء صالح ؟

هذا كان جوابُ نثنائيل الأوّل، جوابٌ فيه شكّ وتردّد وخوف. وكأنّ نثنائيل أراد أن يتأكّد من صحّة قول فيليبّس قبل أن يلبّي الدعوة ويلتحق بالمسيح. وإنّنا لَنفهم موقف نثنائيل، إذ إنّ الدعوة الموجّهة إليه ليست دعوة عاديّة، كما رأينا، بل كأنّها دعوة إلى المغامرة، إلى الانطلاق في المجهول، بعد أن يكون تخلّى عن كلّ شيء.

وجواب نثنائيل هذا غالبًا ما يكون جوابَنا نحن. فحين نسمع السيّد يدعونا، وإنّه يدعونا في كلّ حين، نتردّد ونخاف أن ننطلق معه، إذ نكون متمسّكين بما لنا من أشياءَ وأفكارٍ وعواطفَ وعادات، ونختلق ألف حجّة وعذر لكي نُعرض عن تلبية الدعوة (مثل الدعوة إلى العرس).

3- لمّا رآه يسوع

إن كان يسوع يقول لكلّ من يوجّه إليه الدعوة: "تعالَ وانظر"، فإنّه بدوره هو ينظر إليه: "فلـمّا رآه يسوع". وليست هذه هي المرّةَ الأولى التي يتكلّم فيها الإنجيل عن نظرة يسوع إلى الناس، بل غالبًا ما تكلّم عنها وكأنّ لها معنى خاصًّا. وفي الواقع فإنّ نظرة يسوع ليست نظرة عاديّة، بل هي نظرة فيها من القوّة والعمق والحنان والحبّ بحيث تقلب كيان مَن تقع عليهم وتحوّل حياتهم، من الرسل إلى مريم المجدليّة إلى زكّا إلى نيقوديممس إلى الأعمى إلى المخلّع إلى السامريّة... وها هي الآن في مقطع الإنجيل الذي نحن بصدده تغيّر اسم بطرس، أي حياته، وتجعل نثانائيل يصرخ إلى المسيح: "أنت هو ابن الله". إنّ نظرة يسوع إلينا تعني قوله لنا: "لا تخافوا"، "أنا معكم".

إزاء تردّدنا في تلبية دعوة المسيح لنا والانطلاقِ معه، إزاء خوفنا من النظر إليه، علينا أن نتذكّر دومًا أنّه هو أيضًا ينظر إلينا، وحتّى قبل أن ننظر إليه نحن، كما قال لنثنائيل: "قبل أن يدعوك فيليبّس، وأنت تحت التينة رأيتك"، وفي نظرته ثقة بنا وحبّ لنا وشوق وانتظار، وفي الوقت عينه تشجيع لنا وحثّ على أن نبادله الثقة والحبّ، على أن نذهب معه، أن نرى أين يسكن، ونختبر الحياة معه. ومتى اختبرنا العيش مع المسيح فإنّي واثق بأنّنا سوف نقول له ما قاله له بطرس: "إلى أين نذهب يا ربّ، فإنّ عندك كلامَ الحياة".

4- على مثال القدّيسين

من الوسائل التي تعرضها الكنيسة في زمن الصوم لحثّنا على اتّباع يسوع التشبّهُ والاقتداء بالقدّيسين. إنّ هؤلاء يبقَون في نظرنا نحن المسيحيّين المثال الحيّ الحقيقيّ للإيمان المستقيم الراسخ وللتضحيات التي بذلوها في الحفاظ على إيمانهم بيسوع حتّى الاستشهاد. وقد سمعنا القدّيس بولس يتكلّم في رسالة اليوم عن بعضهم الذين من العهد القديم ويقدّمهم لنا مثالاً. ولكي تجعلهم الكنيسة أقرب إلينا عمدت إلى رسمهم في الإيقونات، وهي إذ فعلت ذلك لا لكي نقع في الوثنيّة والصنميّة أعني لا لكي نكرّم الخشب واللون بل لكي نكرّم مَن خلفهما ومن تمثّلهما، لكي نكرّم القدّيسين أنفسهم إنّما بوسائل وبطرق بشريّة على قدّنا وقياسنا نحن البشر. إنّ هذا الأمر لم يستوعبه البعض فشنّوا حربًا على تكريم الإيقونات دامت طويلاً وقد استعانوا على ذلك بيد الدولة البيزنطيّة نفسها، إلاّ أنّ الحقيقة ما لبثت أن تجلّت وعاد المسيحيّون إلى تقليدهم وإلى تكريم الإيقونات، وهذا ما نحتفل به اليوم في كنيستنا الملكيّة.

لنصلِّ اليوم لكي نتابع مسيرة الصيام بعزم وحرارة؛ لنصلِّ لكي ينعم اللّه علينا بإيمان حيّ قويّ؛ لنصلِّ لكي يكون الربّ يسوع هو غاية حياتنا؛ لنصلِّ بعضنا من أجل بعض؛ لنصلِّ لكي يكون اسم الربّ ممجَّدًا على الدوام ممجَّدًا. آمين.

+ غبطة البطريرك يوسف العبسي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الملكيّين الكاثوليك

الكنيسة الكاتدرائيّة، دمشق، في 26/02/2023

هذه العظة نُشرت على صفحة بطريركيّة الرّوم الملكيّين الكاثوليك على موقع فيسبوك.

Previous
Previous

‎قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني يحتفل بالقدّاس الإلهي لمناسبة أحد قانا الجليل

Next
Next

فيديو - عظة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر في قدّاس أحد مرفع الجبن (الغفران) في الكاتدرائيّة المريميّة، دمشق