عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في قدّاس لراحة نفس المثّلث الرحمة البابا بندكتوس السادس عشر
في التالي عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، في قدّاس لراحة نفس المثّلث الرحمة البابا بندكتوس السادس عشر، يوم الجمعة 6 كانون الثاني/ يناير 2023، في بازيليك سيّدة لبنان، حريصا.
"يا يسوع أنا أحبّك"
1.هذه هي آخر كلمة قالها المثلّث الرحمة البابا بندكتوس السادس عشر، ساعةً قبل أن يُسلم الروح الساعة التاسعة وأربع وثلاثين دقيقة من صباح 31 كانون الأوّل/ ديسمبر اليوم الأخير من سنة 2022. ما يعني أنّه أكمل رحلته في التاريخ ودامت خمسًا وتسعين سنة، ليدخل أبديّة اللّه والنور البهيّ، أبديّة المشاهدة السعيدة في مجد السماء. إنّه إبن نور المسيح منذ معموديّته، وخادم نور الإيمان والمحبّة والحقيقة. ففي سبت النور، من ذاك يوم السادس عشر من نيسان/ أبريل 1927، أبصر النور جوزف Ratzinger في قرية صغيرة من منطقة Bavaria الألمانيّة بأبرشيّة Passau القريبة من الحدود مع النمسا. وهو الأصغر بعد شقيقته ماريا المتوفيّة سنة 1991 وكانت تخدمه في مكان إقامته كردينالًا، وشقيقه Georg الذي أصبح كاهنًا وتوفي سنة 2020. تربّى على الإيمان واللطف والوداعة على يد والديه، كما ذكر في وصيّته الروحيّة: "من والده تعلّم الإيمان الواعي، ومن والدته ماريا التقوى العميقة والصلاح؛ وتعلّم من شقيقته الخدمة المتفانية، ومن شقيقه وضوح القرار وصفاء القلب."
2. لقد أصبح اللاهوتي الكبير، وراعي الكنيسة الجامعة الوديع، وبابا التواضع والبسمة اللطيفة؛ رجل الواجب والضمير، الصبور بوجه المحن من الذين أساؤوا فهمه وتعليمه، وأولئك الذين تطاولوا على الإيمان وتعليم الكنيسة. عظمته أنّه جمع بين الإيمان والعقل، وعمل على الإنسجام بينهما. الإيمان عنده لقاء شخصيّ عميق مع الله، لا مع فكرة. فجعل منه رجل صلاة وتأمّل وإصغاء. إيمانه علّمه أنّ "الله محبّة". فكان مفتاح حبريّته، وموضوع أوّل رسالة عامّة أصدرها في 25 كانون الأوّل 2005.
أمّا العقل فأداته الوقادة التي مكّنته من نيل شهادة الملفنة في اللاهوت العقائدي سنة 1957 وهو بعمر ثلاثين سنة. وقد جعلت منه لاهوتيًّا كبيرًا وأستاذًا محاضرًا لأكثر من ثلاثين سنة في أهمّ جامعات ألمانيا من مثل: Freising، و Bonn، و Münster، و Tubingen، و Ratisbon. أراد أن يكون الإيمان في حوار دائم مع العقل، والعقل منفتحًا دائمًا على الإيمان. اصطحبه الكردينال Frings، رئيس أساقفة Köln ليكون خبيرًا لاهوتيًّا في المجمع الفاتيكاني الثاني. فكان له التأثير الكبير في الوثائق الإعداديّة، ولا سيما ما يختصّ بلاهوت سرّ الكنيسة والليتورجيّا.
رافق Joseph Ratzinger، اللاهوتي والمعلّم، تطبيق تعليم هذا المجمع، وما اتصل به من نقاش بشأن حقائق جوهريّة من الإيمان. وقال قولته الشهيرة: نرى "مسيحيّة تتقدّم بأثمانٍ متدنيّة."
3. إختاره البابا القدّيس بولس السادس رئيسًا لأساقفة ميونخ سنة 1977 وبعد أشهرٍ قليلة عيّنه كردينالًا وهو بعمر خمسين سنة. واستدعاه القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني بعد أربع سنوات إلى روما رئيسًا لمجمع عقيدة الإيمان. فأتمنه على هذه الوديعة المقدّسة مع كلّ ما اقتضت من تعليم وتصويب، وتوجّها بإعداد "كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة" الذي نشره البابا يوحنّا بولس الثاني بالدستور الرسولي "وديعة الإيمان" في 11 تشرين الأوّل 1992.
مارس الكردينال Ratzinger رئاسة مجمع عقيدة الإيمان الصعبة والدقيقة بنشاط وتجرّد وتواضع طيلة أربع وعشرين سنة حتى وفاة البابا يوحنّا بولس الثاني، وانتخابه بغضون أربع وعشرين ساعة، خلفًا له بعمر 78 سنة في 19 نيسان 2005، متّخذًا إسم بندكتوس السادس عشر، نسبةً إلى القدّيس الكبير بندكتوس شفيع أوروبا. فأعلن نفسه للشعب المحتشد في ساحة القدّيس بطرس بكلّ بساطة وتواضع قائلًا: "بعد البابا الكبير يوحنّا بولس الثاني، اختارني السادة الكرادلة، أنا العامل البسيط والوضيع في كرم الربّ. يعزّيني الواقع أنّ الله يعرف كيف يعمل أيضًا بأدوات غير كافية. فإنّي أتكّل على صلاتكم". إختار إسم "بندكتوس" حبًّا لأوروبا واهتمامًا بمصيرها. فآخر كتاب كتبه وهو كردينال: "أوروبا أسسها اليوم وغدًا". وأوّل كتاب كبابا كان بعنوان "أروبا في أزمة الثقافات". وأولى زياراته الرسوليّة كانت لبلدان أوروبيّة مثل كولونيا ليوم الشبيبة العالميّ، ثمّ بولونيا، فإسبانيا والنمسا والبرتغال وإنكلترا. وكانت الثقافة الأوروبيّة حاضرة في رسائله العامّة.
4. قاد الكنيسة على مدى ستّ سنوات بمحبّة وتواضع ووداعة، ولكن بشجاعة وأمانة لعقيدة الإيمان، وحارب بتعليمه ومسلكه ما سُمي بعد الفاتيكاني الثاني "بمحافظين وتقدّميّين": فكشف عمق تعليم الفاتيكاني الثاني مردّدًا أنّ "الكنيسة ليست كنيستنا، بل كنيسة المسيح". تحمّل، بالصبر والصلاة وشجاعة التعليم، سوء الفهم والإساءات والإعتراضات؛ واعتبر أنّ أسلافه البابوات واجهوا أزمنة وأوضاعًا أكثر مأساويّة. كان سرّ المسيح عنده الألف والياء. فكتب كتبًا لاهوتيّة مرجعيّة منها: يسوع الناصريّ (3 أجزاء)، ونور العالم، وملح الأرض.
5. بعمر خمس وثمانين سنة قدّم إستقالته من خدمته البابويّة في 11 شباط 2013 معتبرًا أنّ الكنيسة بحاجة إلى راعٍ أنشط قادر على التحرّك كما تفرض عليه البابويّة. وقال إنّه ينصرف إلى خدمة الكنيسة بالصلاة والصمت، معلنًا طاعته الكاملة لخلفه. وعاش ناسكًا في دير صغير ضمن حديقة الفاتيكان. هذه الخطوة جعلت منه واحدًا من كبار البابوات في التاريخ، بالإضافة إلى كونه وضع حجرًا صلدًا ودائمًا في بناء الكنيسة الكاثوليكيّة. "كان ضعيفًا في الجسد ولكن كبيرًا بالفكر" بشهادة أمين سرّه المطران Georg Gänswein. فهذا البابا رجل الفكر، أسهم إسهامًا كبيرًا في تعميق الإيمان عند الكاثوليك. يذكر التاريخ أنّ حبرًا أعظم واحدًا سبقه منذ ستّة قرون على الإستقالة سنة 1415، وهو البابا غريغوريوس الثاني عشر…
هذه العظة نُشرت على صفحة البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.