رسالة قداسة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي السابع والخمسين لوسائل التواصل الإجتماعي
تحت عنوان "التكلُّم من القلب "للحقِّ بالمحبة" (أفسس ٤، ١٥)" صدرت ظهر يوم الثلاثاء 24 كانون الثاني/ يناير 2023، رسالة قداسة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي السابع والخمسين لوسائل التواصل الإجتماعي ننشر نصّها في ما يلي:
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء!
بعد أن تأمّلنا خلال السنوات الماضية، حول الأفعال "الذهاب والرؤية" و"الاصغاء" كشرط للتواصل الجيد، أُريد بهذه الرسالة لليوم السابع والخمسين لوسائل التواصل الإجتماعي أن أتحدّث عن "التكلُّم من القلب". إنّ القلب هو الّذي يدفعنا لكي نذهب ونرى ونصغي، والقلب هو الّذي يحرِّكنا لكي نتواصل بشكل منفتح ومضياف. وبعد أن تمرّنا في الإصغاء، الّذي يتطلّب انتظارًا وصبرًا، وكذلك التخلّي عن التأكيد المتحيز لوجهة نظرنا، يمكننا أن ندخل في ديناميكيّة الحوار والمشاركة، الّتي هي ديناميكيّة التواصل من القلب. إذا أصغينا إلى الآخر بقلب نقي، سنتمكّن أيضًا من أن نتكلّم بحسب الحق في المحبّة (راجع أفسس ٤، ١٥). لا يجب أن نخشى من أن نعلن الحقيقة، حتى لو كانت مُزعجة في بعض الأحيان، وإنما علينا أن نخشى أن نعلنها بدون محبة أو بدون قلب. لأن "برنامج المسيحي - كما كتب بندكتس السادس عشر - هو" قلب يرى". قلب يكشف بنبضاته حقيقة وجودنا ولهذا السبب علينا أن نصغي إليه. وهذا الأمر يحمل الذي يُصغي لكي يكون في تناغم على الطول الموجي عينه، لدرجة أن يصل به الأمر لأن يشعر بنبض قلب الآخر في قلبه. عندئذ يمكن أن تحدث معجزة اللقاء، التي تجعلنا ننظر إلى بعضنا بشفقة، ونقبل نقاط ضعف بعضنا البعض باحترام، بدلاً من أن نحكم من خلال الإشاعات وزرع الفتنة والانقسامات.
يحذرنا يسوع من أنّ كل شجرة تُعرف من ثمرها (راجع لوقا ٦، ٤٤): "الانسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح والانسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر فانه من فضلة القلب يتكلم فمه" (آية ٤٥). لهذا السبب، لكي نكون قادرين على التواصل وفقًا للحقيقة في المحبة، علينا أن نُنقّي قلوبنا. من خلال الاصغاء والتكلم بقلب نقي فقط يمكننا أن نرى أبعد من المظاهر وأن نتخطى الضوضاء غير الواضحة التي، حتى في مجال المعلومات، لا تساعدنا على تمييز تعقيد العالم الذي نعيش فيه. إن الدعوة إلى التكلُّم من القلب تُسائل بشكل جذري زمننا الذي هو عرضة للامبالاة والاستياء، وأحيانًا على أساس التضليل الإعلامي الذي يزوِّر الحقيقة ويستغلها.
التواصل من القلب
إنَّ التواصل من القلب يعني أن نقود الذي يقرأنا أو يستمع إلينا إلى أن يفهم مشاركتنا في أفراح ومخاوف وآمال وآلام نساء ورجال زمننا. إن الذي يتكلم بهذه الطريقة يحب الآخر لأنه يهتم بأمره ويحفظ حريته دون أن ينتهكها. يمكننا أن نرى هذا الأسلوب في عابر السبيل الغامض الذي تحاور مع التلميذين وهما في طريقهما إلى عماوس بعد المأساة التي حدثت على الجلجلة. معهما تكلم يسوع القائم من الموت من القلب، ورافق باحترام مسيرة ألمهما، وإذ اقترح نفسه ولم يفرضها، فتح ذهنيهما بمحبة لكي يفهما المعنى الأعمق لما حدث. في الواقع، تمكنا من أن يهتفا بفرح أنَّ قلبيهما كانا مُتَّقدين في صدريهما حينَ كان يُحَدِّثُهما في الطَّريق ويَشرَحُ لهما الكُتُب (راجع لوقا ٢٤، ٣٢).
في مرحلة تاريخية مطبوعة بالاستقطابات والتناقضات - التي وللأسف لم تسلم منها حتى الجماعة الكنسيّة – لا يتعلّق الالتزام بالتواصل "من القلب وبأذرع مفتوحة" حصريًا بالعاملين في مجال المعلومات، بل هو مسؤولية كلِّ فرد. نحن جميعًا مدعوون لكي نبحث عن الحقيقة ونقولها ولكي نقوم بذلك بمحبّة. نحن المسيحيون، مدعوون بشكل خاص لكي نحافظ على لساننا من الشر (راجع مزمور ٣٤، ١٤)، لأنه، كما يعلّم الكتاب المقدس، باللسان عينه يمكننا أن نبارك الرب ونلعن النَّاسَ المَخلوقينَ على صُورَةِ الله (راجع يعقوب ٣، ٩). لا ينبغي أن تخرج أَيَّةُ كَلِمَةٍ خَبيثَة من أفواهنا، "بل كُلُّ كَلِمةٍ طيِّبةٍ تُفيدُ البُنْيانَ عِندَ الحاجة وتَهَبُ نِعمَةً لِلسَّامِعين" (أفسس ٤، ٢٩).
في بعض الأحيان، يفتح الكلام اللطيف ثغرة حتى في أكثر القلوب قساوة. لدينا أمثلة على ذلك أيضًا في الأدب. أفكر في تلك الصفحة المأثورة في الفصل الحادي والعشرين من رواية "المخطوبون" التي تتحدث فيها لوتشيا من القلب إلى المجهول، الذي وإذ جُرِّد من سلاحه وعذّبته أزمة داخلية سليمة، استسلم لقوة الحب اللطيفة. نحن نختبر ذلك في التعايش المدني حيث لا يكون اللطف مجرد مسألة "آداب"، وإنما ترياق حقيقي ضدَّ القسوة، التي للأسف يمكنها أن تسمِّم القلوب وتسمِّم العلاقات. نحن بحاجة لذلك أيضًا في وسائل الإعلام، لكي لا يؤجج التواصل حقدًا مُستفزًّا، ويولِّد الغضب، ويقود إلى المواجهة، وإنما لكي يساعد الأشخاص على التفكير بهدوء، وفهم الواقع الذي يعيشون فيه بروح ناقدة ومحترمة على الدوام.
التواصل من القلب إلى القلب: "يكفي أن نحب جيدًا لكي نتكلّم جيّدًا"
إنَّ أحد الأمثلة المنيرة والتي لا تزال تسحرنا اليوم أيضًا حول "التكلُّم من القلب"، هو القديس فرنسيس دي سال ملفان الكنيسة الذي كرّست له مؤخرًا الرسالة الرسولية "كلُّ شيء يعود إلى الحب"، في الذكرى المئوية الرابعة لوفاته. إلى جانب هذه الذكرى المهمة، يطيب لي أن أذكر مناسبة أخرى سيُحتفل بها في عام ٢٠٢٣: الذكرى المئوية لإعلانه شفيعًا للصحفيين الكاثوليك من قبل البابا بيوس الحادي عشر من خلال الرسالة العامة "Rerum omnium perturbationem". ذكاء لامع، وكاتب خصب، ولاهوتي ذو عمق كبير كان فرنسيس دي سال أسقفًا لجنيف في بداية القرن السابع عشر، في سنوات صعبة، طُبعت بنزاعات محتدمة مع الكالفينيين. لكنَّ موقفه الوديع، وإنسانيته، واستعداده للحوار بصبر مع الجميع ولاسيما مع الذين كانوا يعارضونه، جميع هذه الأمور جعلت منه شاهداً مميَّزًا لمحبة الله الرحيمة. فعنه يمكننا أن نقول: "الفم العذب يكثر الاصدقاء واللسان اللطيف يكثر المؤانسات" (سيراخ ٦، ٥). كذلك، ألهمت إحدى عباراته الشهيرة، "القلب يخاطب القلب"، أجيالًا من المؤمنين، من بينهم القديس جون هنري نيومان الذي اختارها لتكون شعاره الأسقفي، Cor ad cor loquitur. "يكفي أن نحب جيدًا لكي نتكلّم جيّدًا"، لقد كانت هذه إحدى قناعاته. وهذا الأمر يُظهر كيف لا ينبغي بالنسبة له أن يختصر التواصل إلى مجرَّد أُحبُولَة، إلى - كما نقول اليوم - استراتيجية تسويقية، وإنما يجب أن يكون انعكاسًا للروح، السطح المرئي لنواة حب غير مرئية للعين. بالنسبة إلى القديس فرنسيس دي سال، "في القلب ومن خلال القلب تتم تلك العملية الموحِّدة الدقيقة والمكثفة التي من خلالها يتعرف الإنسان على الله". وإذ "أحبَّ جيّدًا" نجح القديس فرنسيس في التواصل مع مارتينو الأصمّ والأبكم، وأصبح صديقه؛ لذلك يُذكر أيضًا كحامي الأشخاص الذين يعانون من إعاقات في التواصل…
هذا التقرير نُشر على موقع فاتيكان نيوز، لقراءة المزيد إضغط هنا.