عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في الأحد الثّامن من زمن العنصرة
في التالي عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، في الأحد الثّامن من زمن العنصرة، يوم الأحد 24 تمّوز/ يوليو 2022، في الديمان، لبنان.
"سأجعل روحي عليه فيبشّر الأمم بالحقّ" (متى 10: 18).
1. هذه نبوءة قالها أشعيا النبيّ في منتصف سنة 500 قبل المسيح، فتمّت في شخص يسوع. إبن اللّه المتأنّس، إذ ملأ الروح القدس بشريّته، وجعله مسيحًا مرسَلًا من الآب ليبشّر الأمم بالحقّ ولا سيما بحقيقة الخلاص. إتّخذ صورة خادم لهذه الغاية. فأحبّه الآب ورضيَ عنه. إنّه صاحب هويّة ورسالة أشرك فيهما بواسطة المعموديّة ومسحة الميرون جسده السرّي، الذي هو الكنيسة. الهوّيّة هي مسحة الروح القدس، والرسالة هي التبشير بالحقّ وبحقيقة الخلاص والعمل على تحقيقه. وها الكنيسة، بكلّ أبنائها وبناتها، ومؤسساتها الروحيّة والراعويّة، التربويّة والاستشفائيّة، الإنسانيّة والإنمائيّة، وأجهزتها ومنظّماتها الإجتماعيّة تعمل لخلاص الإنسان بكلّ أبعاده. فباتت الكنيسة علامة رجاء للجميع.
2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة، وقد توافدتم من مختلف المناطق اللبنانيّة ومن بينكم أهالي شهداء تفجير مرفأ بيروت الـ٢٣٢، الذين نحمل قضيّتهم في قلبنا وصلاتنا وعملنا اليوميّ وصولًا إلى الحقيقة الكاملة. جئنا واياكم للصلاة من أجل حماية هويّتنا المسيحيّة التي نلناها بمسحة الميرون، ومنحتنا حريّة أبناء اللّه كرسالة. هذه الحريّة –الرسالة دافع عنها بطاركتنا القدّيسون في قعر هذا الوادي المقدّس، في دير قنوبين طيلة أربعماية سنة، في كامل عهد العثمانيّين، حيث صمدوا بالصبر والصلاة من أجل حماية الأغلى عند الموارنة: الإيمان الكاثوليكي، والحريّة، والإستقلاليّة، وجعلوا هذه الثلاثة رسالتهم. ولـمّا اهتزّت الهويّة والرسالة بسبب ما جرى على حدود لبنان الجنوبيّة في بداية هذا الأسبوع من تعرّض لسيادة أخينا المطران موسى الحاج أثناء قيامه برسالته، أتيتم إلى هذا الكرسيّ البطريركيّ في الديمان لتعلنوا إدانتكم وشجبكم ورفضكم لكل ما جرى، إلى جانب الكثيرين من رسميّين وحزبيّين ومواطنين أمّوا هذا الصرح البطريركيّ، أو الذين إتصلوا بنا مستنكرين من لبنان والخارج وفي مقدّمتهم فخامة رئيس الجمهوريّة، ودولة رئيس حكومة تصريف الأعمال والمكلّف بتشكيل حكومة جديدة، وسيادة السفير البابويّ.
3. سأجعل روحي عليه، فيبشّر الأمم بالحقّ (متى 12: 18).
طبّق متى الإنجيليّ نبوءة أشعيا على يسوع، وهي تبدأ بإعلان من الآب عن يسوع الذي أرسله خادمًا: "هوذا فتاي-خادمي، الذي سُرّت به نفسي". يسوع هو ابن الآب الحبيب الذي أرسله وجاد به، ليكون فاديًا للإنسان ومخلّصًا للعالم. ولهذا سُرّت به نفسه، لكونه يتمّم مشيئته ويظهر حبّه اللامحدود لبني البشر. إنّه مع الآب على فكر واحد وفعل واحد وقرار واحد.
وتعلن النبوءة هويّته:"سأفيض روحي عليه"، وهي مسحة الروح القدس الذي سيملأ كيانه البشريّ، ويجعله مسيحًا. وتعلن رسالته: "فيبشّر الأمم بالحقّ"، كاشفًا حقيقة اللّه والإنسان والتاريخ. هذه الحقيقة تحرّر وتخلّص وتوحّد.
4. هاتان الهويّة والرسالة تقتضيان منا نهجًا، حدّده أشعيا في نبوءته باثنتين: الوداعة بروح سلامي في الإعتصام بالحقّ والعدل: "لا يخاصم ولا يصيح ولا يُسمع صوته في الشوارع" (متى 12: 14)؛ والمحافظة على الضعيف ومساعدته لينهض من معاناته الجسديّة والماديّة والروحيّة والأخلاقيّة: "قصبة مرضوضة لا يكسر، وفتيلًا مدخّنًا لا يُطفئ" (متى 12: 20). وهكذا، نشكّل، كما يريدنا المسيح الربّ "علامة رجاء للجميع " ، إذ نسير بالحقّ والعدل حتى النصر (راجع متى 12: 20).
5. نحن المسيحيّين، أينما كنّا، وعلى الأخصّ في لبنان وبلدان الشرق الأوسط، مؤتمنون على هذه الهويّة والرسالة. وعلى ثقافة الإنجيل وكرامة الإنسان وقدسيّة الحياة البشريّة. فلا نستطيع إلّا أن ننفتح بشكل دائم لعمل الروح القدس، الذي يقدّسنا وينقّي هويتنا، ويوجّه رسالتنا التي لا تقتصر على القطاع الروحيّ والدينيّ، بل تنبسط إلى العائلة والمجتمع والدولة.
فالرسالة في الدولة هي ممارسة السلطة السياسيّة والعمل السياسي والحزبي من أجل تأمين الخير العام، على جميع المستويات، ومن أجل تعزيز الاقتصاد الوطني، وإعطاء الجميع، وبخاصّة الأجيال الطالعة أملًا بمستقبل أفضل وفرص عمل في وطنهم وتحفيز قدراتهم وإبداعهم. هذا يعني أنّ الهدف من العمل السياسيّ هو الإنسان، لا بالمطلق، بل هذا الإنسان المواطن.
6. نحن من جهتنا ككنيسة لن نتخلّى عن إنسانيّتنا وعن خدمة هذا الإنسان الذي بقربنا، مهما كلّف الأمر. لقد آن الأوان لتغييرِ هذا الواقعِ الطافحِ بالأحقاد والكيديّات، والمكتَظِّ بالسلوكيّاتِ المعيبةِ بحقِّ القائمين بها أوّلًا. لا يُبنى لبنانُ ولا يَنمو ولا يتوحَّدُ بهذا النهجِ المنحَرِفِ عن قيمِ شعبِه ومجتمعِه وتاريخِه. ويا ليتَ الّذين يَقترفون هذه السلوكياتِ ويُفبرِكون الملفّات يتَّعظِون ممن سبقَهم، ومن تجاربِ الماضي القريبِ والبعيد، التي أظهرَت أن ما عدا الأمنِ والحريّةِ والمحبّةِ والكرامةِ لا يَنبُتُ في تُربةِ لبنان، وأن ما عدا الصالحين لا يدخلون تاريخَ لبنان الحضاريّ المشرّف…
هذه العظة نُشرت على صفحة البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.