إشكاليات واقع المسيحيين العراقيين وفرص المستقبل
غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم
في ظل الظروف الحالية وما يشيع فيها من اختناق سياسي مزمن وتقهقر على صعد عدة، وإزاء ارتفاع اصوات وطنية ونزيهة من كل حدب وصوب، آخرها صرخة الناشطة العراقية، هناء أدور في كلمتها أمام ممثلة الامم المتحدة في العراق، أقدم في هذه الصفحات قراءة للخارطة السياسية لعراق اليوم، وواقع المسيحيين فيه، مع السعي لاستقراء فرص المستقبل للعراق ومواطنيه.
لم يجد العراق منذ سقوط النظام السابق في شهر نيسان 2003 حياة سياسية طبيعية. وأمام القاصي والداني أخفقت الحكومات المتلاحقة في تحقيق ما كان يتطلع اليه المواطنون من بناء السلام والاستقرار، وإعادة هيكلية الدولة، وتطبيق إصلاحات مهمة، وبناء ديمقراطية حقيقية، وتحقيق العدالة والمساواة، والرفاهية لهم. بل على العكس، وفي ظل الفساد السياسي، والاجندات المتصارعة، تفاقمت التحديات، وتراكمت الازمات من دون معالجة حقيقية باستراتيجية واضحة وفاعلة، فتردّت الاوضاع. وما الانسداد السياسي الحالي الا نتيجة طبيعية لنظام المحاصصة والطائفية التي فرضت واقعها على المجتمع..
المسيحيون في العراق
المسيحيون اهل الارض الاصليون، ومواطنون بالاصالة، وشاهدٌ تاريخي على اصالة حضارة بلادهم ومجدها، من الكلدانيين والاشوريين والسريان والارمن ثم بقدوم المسلمين العرب.. انهم جزء لا يتجزأ من النسيج العراقي الجميل، وبرهنوا انهم أكثر وطنية وولاء له. وقد اسهموا كثيراً، في مراحل عديدة من تاريخه، بتقدم ونمو مجتمعهم ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، باخلاصهم وفكرهم ومالهم. وإذ تشير شرعة حقوق الانسان التي وقعها العراق إلى أنه من حقهم ان يشعروا بمواطنة كاملة في الحقوق والواجبات، لكنهم للاسف اعتبروا وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية في وطنهم الام بسبب دينهم المسيحي. وفي مساس صارخ بحقوق الانسان وحرية المعتقد، جُرِحَت مشاعر المسيحيين بنعتهم بالكفار والمشركين في عدد من المنابر الدينية والتربوية (لدينا نصوص موثقة) واذكر على سبيل المثال دمج امتحان مادة التربية الاسلامية مع مادة اللغة العربية مما يربك الطلاب المسيحيين..
ونظرة الى هذا الواقع غير المسبوق نوعياً، ولمجرد التحليل اللاهوتي الفقهي، فإن هذا جهل مبين، وخلط وقصور في النظر الى المسيحية التي تؤمن باله واحد، مما أثر بشكل مؤلم على هجرتهم. كانوا مليوناً ونصف مليون قبل سقوط النظام (2003) واليوم انحدر العدد إلى أقل من خمسمائة الف.
ومن هذا المنبر، ومن خلال مسؤوليتنا الوطنية كجهة دينية عليا لمكوَّن عراقي مسيحي ذي مساحة جغرافية بارزة، نؤكد بانه ينبغي تغيّر الذهنية والثقافة المجتمعية للحفاظ على التنوع والتعددية في العراق، حاضراً ومستقبلاً. الهوية المسيحية والمسلمة والصابئة المندائية والايزيدية ينبغي ان تبقى ارثاً عراقياً مشتركاً ومحترماً وشراكة حقيقية في نشر القيم الدينية السامية والانسانية النبيلة بعيداً عن تصنيف المواطنين باهل الايمان وأهل الكفر واشاعة ثقافة التسامح. المواطنون يُقيّمون على ثقافتهم وطاقاتهم الابداعية لخدمة بلدهم، وليس على دينهم كما الشأن في المجتمعات المتحضرة. من حق اصحاب الديانات غير المسلمة ان يعاملوا بكامل حقوقهم وواجباتهم في جميع المجالات اسوة بالمواطنين المسلمين. والاغلبية المسلمة، تتحمل مسوؤلية بقائهم وتعزيز حضورهم والدفاع عن حقوقهم لانهم حالة فريدة في التنوع الديني والثقافي واللغوي والاجتماعي. مسيحيو العراق والشرق كما يقال هم ملح الارض ومرآة بلادهم! هذه المعضلة يجب معالجتها قانونياً واجتماعياً بسنّ تشريعات جديدة تؤكد على المواطنة المتساوية للجميع واحترام كافة الديانات وتجريم خطابات التحريض على التمييز والكراهية.
إشكاليات واقع المسيحيين
إشكالية الدين وخطاب الكراهية. التطرف الديني سيزداد ضراوة وسينخر جسم المجتمع كالسرطان كما فعلت القاعدة، وعناصر الدولة الاسلامية “داعش” ان لم يعالج ويفكك. الديانة أيا كانت أمر يخص الافراد، وليست نظاماً لادارة الدولة والمجتمع، والدولة كائن اجتماعي مستقل عن الخصوصيات المذهبية والدينية، لأن الديانة هي للمواطنين على اختلافهم. أما اعتماد ديانة واحدة في التشريع كما ورد في المادة الثانية من الدستور العراقي، فإن المادة إياها تحمل في فقرتيها اللاحقتين، ما يناقض اعتماد ديانة واحدة في التشريع، إذ جاء في المادة عينها (ب – عدم جواز سن قانونٍ يتعارض مع مبادئ الديمقراطية. ج ـ وعدم جواز سن قانونٍ يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور) وهكذا فإن الفقرة أ. من هذه المادة تتعارض مع منطق الدولة الوطنية القوية والمدنية الديمقراطية وهذا يخلق تمييزاً وتفاوتاً في التشريع والتعامل مع اصحاب الديانات الاخرى بخاصة ما يتعلق بالمعتقد وقانون الأحوال الشخصية، الزواج والارث (المرأة المسيحية المتزوجة من زوج مسلم لا يحق لها الميراث). ولا بد من التطمين أن النظام المدني ليس انتقاصاً من الاسلام ولا من الديانات الاخرى، انما يحترم القيم الروحية السامية والاخلاق الحميدة. الاسلام ديانة الرحمة والتسامح، كما ان المسيحية ديانة المحبة. عقلية فرض الدين الواحد لا تساعد على الاحترام والتعايش والتسامح. ومن الاجحاف تجاه حقوق الانسان تمييز المواطنين بسبب عقيدتهم الدينية. هذه العقلية تعود الى القرون الوسطى وتأذَّت منها المسيحية. المنطق هو ان الدين لله والوطن الجميع، وينسجم مع قول القرآن “لكم دينكم ولي ديني” (الكافرون 6)، ولا اكراه في الدين (البقرة 256)، والدين يُعرض ولا يُفرض. ومن هذا المنطلق ينبغي ادانة كل اشكال خطاب التمييز والاقصاء والكراهية بين المواطنين بسبب ديانتهم، وفرض رقابة قانونية عليها. ضروري تطوير مناهج التربية الدينية والوطنية وفهم النصوص والممارسات فهما حقيقياً وعلمياً وليس تقليدياً. كذلك يتحتم مراجعة بعض المسمَّيات للتعامل السليم مع الجميع بمشاعر الاخوّة الانسانية ومنطق المواطنة وقول الحديث “كلنا”عيال الله”. بكل محبة واحترام اقترح ان تذكر الديانات هكذا: الديانات في العراق هي : الاسلام وهو ديانة الاغلبية، والمسيحية والصابئة المندائية والايزيدية .. الخ. هذه الهويات ينبغي ان تبقى مع بعضها لانها تصميم الهي ونموذج حضاري للعيش السلمي! ومن المحزن الاشارة إلى أن تراث المسيحيين مُهمَل، وكأنه لم يكن لهم تراث. هذا التراث يمكن ان يكون مورداً مهما للسياحة الدينية. ونظرة إلى كنيسة كوخي في ضواحي بغداد، التي تعود إلى ما بين القرن الأول الميلادي وبداية القرن الثاني، لم يبق منها سوى بعض
الجدران وهي مهملة، أليس هذا استخفافاً واستهانة بهذا الكنز الاثري العراقي!!
هذا المقال نُشر على موقع البطريركية الكلدانية في بغداد، لقراءة المزيد إضغط هنا.