عظة غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان خلال القدّاس الّذي إحتفل به لمناسبة عيد مار أفرام السّريانيّ
ننشر في ما يلي النصّ الكامل للموعظة الّتي ألقاها غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي، خلال القدّاس الحبريّ الرسميّ الّذي إحتفل به غبطته لمناسبة عيد مار أفرام السرياني شفيع الكنيسة السريانيّة وملفان الكنيسة الجامعة، وذلك مساء يوم السبت 5 آذار/ مارس 2022، في كاتدرائيّة سيّدة البشارة، المتحف، بيروت:
موعظة قداس عيد مار أفرام السرياني
السّبت 5 آذار/ مارس 2022
كاتدرائية سيّدة البشارة - بيروت
"اثبتوا في محبّتي... بهذا يتمجّد أبي، أن تأتوا بثمر كثير وتكونوا تلاميذي"
صاحب الغبطة والنيافة أخانا الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة
صاحب السيادة المطران جوزف سبيتيري، السفير البابوي في لبنان
أصحاب النيافة والسيادة الأحبار الأجلاء
الآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل
أيّها الإخوة والأخوات المبارَكون بالرب
يدعونا الرب يسوع في إنجيله اليوم إلى الثبات والإتّحاد به، كما تتّحد الأغصان بالكرمة وتزهر ثماراً يانعة. هكذا نحن، إن ثبتنا بالرب، نزهر بالمحبّة والفضيلة، فنشعّ بنور تلاميذ المسيح.
نحتفل اليوم بعيد القديس مار أفرام، شفيع كنيستنا السريانية وملفان البيعة الجامعة، وقد اعتدنا أن نجتمع معًا في مثل هذا اليوم، في السبت الأول من الصوم، لنكرّم هذا القديس العظيم، ونتغنّى بسيرته، متقفين أثره، ومستنيرين بما تركه لنا من تعاليم وقدوة يُحتذى بها. وبهذه المناسبة نتوجّه باسمنا، وباسم إخوتنا المطارنة الأحبار الأجلاء الذين يعاونوننا في هذا القداس، بالتهنئة القلبية من جميع أبناء كنيستنا وبناتها في كلّ أنحاء العالم، في الشرق وبلاد الانتشار، ضارعين إلى الرب إلهنا، بشفاعة هذا القديس العظيم، أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته.
مار أفرام كنّارة الروح القدس، وكوكب الكنيسة، سطع في سمائها منذ القرن الرابع، حيث وُلِد في نصيبين، وتتلمذ على يد أسقفها القديس يعقوب النصيبيني، مقتدياً بزهده ونسكه. فوشّحه بالإسكيم الرهباني، ورسمه شمّاساً، ويقول التقليد إنّه رافقه إلى مجمع نيقية المسكوني الأول.
إنّه الناسك القديس، ومخزن الفضائل والصالحات، لم تكن الرهبانية لدى مار أفرام نسكاً وصلاةً وعبادةً فقط، بل أيضاً نشراً للبشارة الإنجيلية بالكلام والفكر والعمل. فرأينا مار أفرام الراهب، المثال في التكرّس والصوم والصلاة، يتنسّك ويرشد ويعلّم، فيفيض المواهب الإلهية أمام المؤمنين. وكان رائداً، فألّف جوقة تراتيل من الفتيات، واقتدت به الكنيسة شرقاً وغرباً.
إنّه الروحاني المتعمّق في الكتاب المقدس، وقد أشبع أسفاره درساً وتفسيراً، حتّى قيل إنّه لو فُقِدت نُسَخُ الكتاب المقدس بالسريانية، لاستطعنا جمعها ثانيةً من مؤلّفات مار أفرام وتفاسيره.
إنّه ملفان البيعة الجامعة وعامودها، أغنى الكنيسة بكتاباته، من ميامر (أشعار) ومداريش (أناشيد ونصوص مكتوبة)، تتغنّى بها الكنائس السريانية وترنّمها في صلواتها صباحاً ومساءً. وهو الشاعر الملهَم والمُتيَّم بمديح العذراء مريم، والمدافع الصلب عن إيمان الكنيسة وعقائدها، والعاشق للغة السريانية، لغة الرب يسوع ووالدته العذراء مريم ورسله.
ولأهمّية تعاليمه وتأثيرها في حياة الكنيسة والمؤمنين، أعلنه قداسة البابا بنديكتوس الخامس عشر عام 1920 ملفاناً للكنيسة الجامعة.
إنّه الشمّاس الخادم المكرَّس الذي يتحسّس بأوضاع المؤمنين، فعلى أثر الاضطهاد الذي حلّ بنصيبين، هجرَها مرافقاً شعبها إلى الرها حيث تفانى في الخدمة. وبعد أن أسّس مدرسة نصيبين، أسّس مدرسةً أخرى في الرها كانت مقراً للعلوم والمعارف. وعندما حلّت المجاعة في هذه المدينة ومات عددٌ كبيرٌ من أهلها، راح مار أفرام يطوف منازل الأغنياء ويحثّهم على عمل الرحمة، جامعاً الصدقات وموزّعاً إيّاها على الفقراء. وإثر الجوع، انتشر وباء الطاعون، فراح مار أفرام يعتني بالمرضى ويشجّعهم، حتّى أصيب بالمرض، واحتمل الآلام صابراً، إلى أن فاضت روحه عابقةً برائحة القداسة.
إنّه وبحقّ شمس السريان اللامع الذي يضيء الدرب أمامهم، بل أمام الكنيسة بأسرها في كلّ جيل.
بالعودة إلى إنجيل اليوم، يعلن الرب يسوع بكلامٍ واضح: "أنا الكرمة الحقّ وأنتم الأغصان"، فنحن الذين آمنّا به، نتّكل عليه، ولا نستطيع أن نصنع الخير والصلاح من دونه. وبالثبات به، نثمر ثمار الأعمال الصالحة والحياة المسيحية البارّة، فنكون تلاميذ حقيقيين للمعلّم الصالح الذي بذل ذاته من أجلنا.
نعم، لقد ثبتنا بالرب، إذ بالمعمودية أصبحنا هيكلاً له، فيه يسكن، وبالإفخارستيا، سرّ المحبّة الإلهية، اتّحدنا بفادينا الإلهي اتّحاداً نغذّيه بتسليم ذواتنا له، عاملين بوصاياه، إذ لا نستطيع أن ننفصل عنه أبداً.
يدعونا الرب اليوم كي نبقى أمناء لكلامه وتعاليمه ونعمته التي حلّت فينا. فنشهد له في حياتنا، في كلامنا، وفي مَثَلِنَا الصالح.
لقد كان آباؤنا السريان، ومار أفرام في طليعتهم، روحانيين وواقعيين متبصّرين، أدركوا أنّ المسيحية روح وحياة. فثبتوا بالرب، وكانوا قوّةً تسند الكنيسة رغم كلّ التجارب والضيقات والإضطهادات. ونحن مدعوون اليومَ على غرارهم كي نبقى ثابتين بالرب يسوع رغم كلّ ما نعيشه من المحن والأزمات والتحدّيات والنكبات. نتبع الرب وعيوننا شاخصة إليه، كي ننال لنا وللآخرين نِعَم الخلاص، واثقين بوعده الدائم لنا أنّه في وسط الكنيسة فلن تتزعزع أبدًا.
نعم سنبقى ثابتين في كنيستنا، نغرف من كنوزها في مسيرتنا الأرضية. نعيش الشركة الروحية بالمشاركة الفاعلة وروح الإرسالية، لا سيّما ونحن نعيش هذه المسيرة السينودسية مع إخوتنا المؤمنين في الكنيسة على امتداد المعمورة، فنستعدّ للسينودس الروماني الذي سيُعقَد برئاسة قداسة البابا فرنسيس في العالم المقبل.
ونحن في لبنان سنبقى ثابتين في هذا الوطن مهما تخلّف المسؤولون السياسيون فيه عن أداء واجباتهم الوطنية بخدمةٍ نزيهةٍ للشعب الجريح والمتألّم، الذي أضحى عرضةً للخوف واليأس من المستقبل، ولم يجد الكثيرون سوى الهجرة سبيلًا لهم، لا سيّما في صفوف الشباب والطاقات المنتجة…
هذه العظة نُشرت على موقع بطريركيّة السريان الكاثوليك الأنطاكيّة، لقراءة المزيد إضغط هنا.