قداسة البابا فرنسيس: إذا أردنا أن يتغيّر العالم، علينا أن نغيِّر قلوبنا أوّلًا

"تدعونا مريم العذراء لكي نذهب إلى الينبوع، إلى الرّبّ، الّذي هو العلاج الجذري لكلّ خوف ولشرور الحياة" هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئّسًا الإحتفال برتبة التوبة في بازيليك القدّيس بطرس بالفاتيكان.

ترأّس قداسة البابا فرنسيس عصر الجمعة في بازيليك القدّيس بطرس بالفاتيكان الإحتفال برتبة التوبة في إطار مبادرة "٢٤ ساعة للربّ" وهي مبادرة سنويّة ينظّمها المجلس البابويّ للبشارة الجديدة بالإنجيل وتتمحور هذا العام حول موضوع "بواسطته نلنا الغفران". وفي ختام الاحتفال كرّس الأب الأقدس البشريّة إلى قلب مريم الطاهر ولاسيما شعوب روسيا وأوكرانيا. وقد تخللت الرتبة عظة للبابا فرنسيس قال فيها في إنجيلِ عيدِ اليوم، تكلّم الملاكُ جبرائيل ثلاثَ مرّاتٍ وخاطبَ مريمَ العذراء.

قداسة البابا فرنسيس: إذا أردنا أن يتغيّر العالم، علينا أن نغيِّر قلوبنا أوّلًا (Vatican Media)

في المرّة الأولى، تابع الأب الأقدس يقول عندما حيّاها، قال: "افرَحي، أَيَّتُها المُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ". سبب الفرح وسبب السّرور يتجلّى في كلمات قليلة وهي: الرّبُّ معكِ. أيّها الأخ، وأيّتها الأخت، يمكنك أن تسمع اليوم الكلمات نفسها موجّهة إليك، ويمكنك أن تتبنّاها في كلّ مرّة تقترب فيها من مغفرة اللّه، لأنّ الرّبّ يقول لك هناك: "أنا معك". كثيرًا ما نفكّر أنّ الاعتراف يقوم على ذهابنا إلى اللّه مُطأطئي الرؤوس. ولكن أولاً، لسنا نحن من يرجع إلى الرّبّ، بل هو الذي يأتي لزيارتنا، ويملأنا بنعمته ويُبهجنا بفرحه. الاعتراف هو أن نعطي الآب فرح أن ينهضنا مجدّدًا. ففي محور ما سنعيشه لا توجد خطايانا بل مغفرة اللّه لنا. لنحاول أن نتخيّل لو كانت خطايانا هي محور سرّ الاعتراف: لكان كلّ شيء تقريبًا سيعتمد علينا، وعلى توبتنا، وجهودنا، والتزاماتنا. لكنَّ الأمر ليس كذلك، المحور هو اللّه الذي يحرّرنا ويوقفنا على أقدامنا.

أضاف البابا يقول لنُرجِع الأولويّة إلى النّعمة ولنطلب عطيّة أن نفهم أنّ المُصالحة ليست أوّلًا خطوة منا نحو اللّه، بل هي عناق اللّه لنا الذي يغمرنا ويدهشنا ويجعلنا نتأثّر. فاللّه هو الذي يدخل بيتنا، كما دخل بيت مريم في الناصرة ويحمل لنا دهشةً وفرحًا لم نعرفهما من قبل. لنضع منظور اللّه في المقدّمة: وسوف نستعيد محبّتنا لسرِّ الاعتراف. نحن بحاجة إلى ذلك، لأنّ كلّ ولادة داخليّة جديدة، وكلّ نقطة تحوّل روحيّة تبدأ من هنا، من مغفرة اللّه. لا نتجاهلنَّ المصالحة، وإنما لنكتشفها مجدّدًا كسرِّ الفرح. نعم، سرُّ الفرح، حيث يصبح الشّرّ الذي يُخجلنا فرصة لكي نختبر عناق الآب الدافئ، وقوّة يسوع اللطيفة التي تشفينا، وحنان الرّوح القدس الوالدي. هذا هو جوهر سرّ الاعتراف. ولهذا، أيّها الإخوة الأعزّاء الذين تمنحون مغفرة اللّه، كونوا أولئك الذين يقدّمون فرح هذا الإعلان للذين يقتربون منكم: "افرح، الرّبّ معك". بدون تَشدُّد، وبدون عقبات، وبدون إزعاج، بل أبواب مفتوحة على الرّحمة! في سرّ الاعتراف، نحن مدعوّون بشكل خاص لكي نجسّد الرّاعي الصّالح الذي يحمل خرافه بين ذراعيه ويحنو عليها، ولكي نكون قنوات نعمة تسكب في القلوب الجافّة ماء رحمة الآب الحيّ.

تابع الحبر الأعظم يقول كلّم الملاك مريم للمرّة الثانية، وإذ اضطربت من سلامه، قال لها: "لا تَخافي". في الكتاب المقدّس، عندما يقدّم اللّه نفسه لمن يقبله، هو يحبّ أن يقول هاتين الكلمتين: لا تخف. قالها لأبرام، وكرّرها لإسحاق، وليعقوب وهكذا دواليك، وصولاً إلى يوسف ومريم. بهذه الطّريقة هو يرسل لنا رسالة واضحة ومعزّية، وهي: في كلّ مرّة تنفتح فيها الحياة على اللّه، لا يمكننا بعدها أن نبقى رهائن للخوف. أيّها الأخ، وأيّتها الأخت، إن كانت خطاياك تخيفك، وإن كان ماضيك يقلقك، وإن لم تلتئم جراحك، وإن كان سقوطك المستمر يحبطك ويبدو لك أنّك فقدت الرجاء، لا تخف. لأنَّ اللّه يعرف ضعفك وهو أكبر من أخطائك. وهو يطلب منك شيئًا واحدًا فقط: ألّا تحتفظ بضعفك وبؤسك في داخلك، بل احملهما إليه، وضعهما أمامه، وتلك التي كانت أسباب يأس ستصبح فرصًا للقيامة. لا تخف!

أضاف الأب الأقدس يقول إنَّ العذراء مريم ترافقنا: هي نفسها قد ألقت قلقها على اللّه. لقد كان إعلان الملاك لها سببًا جديّا للخوف. إذ اقترح عليها أمرًا لا يمكن تصوّره، يفوق قواها ولم يكن بإمكانها أن تتعامل معه بمفردها: كان هناك العديد من الصعوبات ومشاكل مع شريعة موسى ومع يوسف، ومع الأشخاص في بلدتها وشعبها. ولكنَّ مريم لم تعترض. اكتفت بكلمة "لا تخافي"، واكتفت بطمأنة اللّه لها. وتشبّثت به، مثلما نريد أن نفعل نحن في هذا المساء. لأنّنا غالبًا ما نفعل العكس: ننطلق من ضماناتنا، وعندما نفقدها، إذّاك فقط نذهب إلى اللّه. أما مريم العذراء فتعلِّمنا أن نبدأ انطلاقًا من اللّه، واثقين بأنّنا سنُزاد بالباقي. هي تدعونا لكي نذهب إلى الينبوع، إلى الرّبّ، الذي هو العلاج الجذري لكلّ خوف ولشرور الحياة. تُذكرنا بذلك عبارة جميلة، كُتبت فوق أحد كراسي الاعتراف هنا في الفاتيكان، وتتوجّه إلى لله بهذه الكلمات: "الابتعاد عنك هو سقوط، والعودة إليك هو قيامة، والبقاء فيك هو حياة".

تابع الحبر الأعظم يقول تواصل أخبار وصوَر الموت خلال هذه الأيام دخولها إلى بيوتنا، بينما تدمّر القنابل بيوت الكثير من إخوتنا وأخواتنا الأوكرانيّين العُزَّل. إنَّ الحرب الوحشيّة التي انقضّت على كثيرين وسببت الألم للجميع تثير في كلِّ فرد منا الخوف والفزع. نشعر في داخلنا بإحساسِ العجزِ والقصور. نحن بحاجة لأن نسمع من يقول لنا "لا تخافوا". ولكن لا تكفينا الطُمأنينة البشريّة، نحن بحاجة لحضور اللّه، ويقين المغفرة الإلهيّة، الوحيدة التي تَمحو الشّرّ، وتُبطِلُ الحقد، وتُعيد السّلام إلى القلوب. لِنَعُد إلى اللّه، وإلى مغفرته.

أضاف قداسة البابا فرنسيس يقول كلَّم الملاك مريم العذراء للمرّة ثالثة، وقال لها: "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سيَنزِلُ علَيكِ". هكذا يتدخّل اللّه في التّاريخ: يَهَبُ روحه. لأنّ قوّتنا لا تكفي في الأمور الهامة. نحن وحدنا لا نستطيع أن نحلّ تناقضات التّاريخ ولا حتّى تناقضات قلوبنا. نحن بحاجة لقوّة اللّه الحكيمة والوديعة، التي هي الرّوح القدس. نحن بحاجة لروح المحبّة، الذي يذوّب الكراهية، ويطفئ الحقد، ويخمد الجشع، ويوقظنا من اللامبالاة. نحن بحاجة لمحبّة اللّه، لأنّ محبّتنا غير مستقرّة وغير كافية. نطلب من الرّبّ أمورًا كثيرة، لكنّنا غالبًا ما ننسى أن نطلب منه الأهمّ، وما يرغب هو في أن يعطينا إيّاه: الرّوح القدس، القوّة لكي نحبّ. في الواقع ماذا سنقدّم للعالم بدون محبة؟ قال أحدُهم إنّ المسيحيّ من دون محبّة مثل إبرة لا تُخيِّط: هي تَنخز، وتجرح، ولكن إن لم تخيِّط، وإن لم تنسج، وإن لم تجمع، فلا فائدة منها. لهذا نحن بحاجة لأن نستقي من مغفرة اللّه قوّة المحبّة، أي الرّوح القدس عينه الذي نزل على مريم…

هذا النصّ نُشر على موقع فاتيكان نيوز، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

غبطة البطريرك الكاردينال ساكو يهنّىء بالسّنة البابليّة الجديدة أكيتو

Next
Next

عظة غبطة البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا في عيد البشارة