سِفْرُ يونان، رحمةُ اللّه واستياء النبيّ، رسالة غبطة البطريرك الكاردينال ساكو لمناسبة صوم باعوثا نينوى
في التالي رسالة غبطة البطريرك الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو، بطريرك بابل للكلدان، لمناسبة صوم باعوثا نينوى 7 – 9 شباط/ فبراير 2022.
الكتاب المقدس كتابٌ “تعليميٌّ—- تربويٌّ”. عندما نقرأه بطريقةٍ تأمليةٍ، وفي جو من الخشوعِ والإصغاء والصلاة، نكتشف أهميّة التمسك بعلاقة قوية بيننا وبين اللّه، ومع الآخرين ومع البيئة. هكذا قراءة، اختبارٌ شخصيٌّ يُرسِّخ الإيمان ويُنضِّجُه. لنقرأ معاً سِفر يونان بطريقة علمية وإيمانيه، بمناسبة صوم الباعوثا هذه الأيام خصوصًا اننا نواجه تحديات ومتاعب حياتية تُضعف فينا الأمل والثقة.
للأسف، اعتدنا على ممارسة بعض الطقوس من دون ان نحاول معرفة نشأتها ولاهوتها وفنونها الأدبية ورموزها، بشكل منهجي، واعٍ ومفهوم. ومن بين هذه الممارسات باعوثا نينوى.
سِفر يونان ليس للنبي التاريخي يونان
سِفر يونان كرّاس صغير، يختلف تماماً عن أسفار الأنبياء الاخرى. كتب بلغة نثرية حديثة وباسلوبٍ ساخر. يعود تأليفه الى ما بعد السبي البابلي (587- 520 ق. م.)! يتضمن السفر أربعة فصول، تدور احداثُ الفصلين الأوليين في البحر، بينما أحداث الفصلين الاخيرين تجري في نينوى عاصمة الإمبراطورية الآشورية. يبدو ان الكاتب المجهول مطّلع على بعض المعلومات عن نينوى وعن طول سورها. يقرأ اليهود جزءً من هذا السفر يوم الغفران- كفور، والمسيحيون المشرقيون يقرأون السفر كله في اليوم الثالث من صوم الباعوثا.
يستخدم الكاتب المُلهَم اسلوب الرواية، ولا يحمل وقائع تاريخية مؤكدة. هذا ما يقوله جميعُ علماءِ الكتاب المقدس المعاصرين1. ثمة عناصر خيالية مثل الحوت الذي ابتلع يونان وبقي في جوفه ثلاثة أيام بلياليها، واليقطينة التي وَقَتْ صلعة يونان من حرّ الصيف! وعناصر غير تاريخية، فنينوى دُمَّرت تماماً سنة 612 ق.م.، وهكذا نمرود ملكها العظيم مؤسس العاصمة الاشورية في كالح كان متوفيّاً.
استشهاد المسيح بيونان وبتوبة أهل نينوى (متى 12/ 41، ولوقا 11/ 29—-32) لا تعني إعترافاً بأحداث تاريخية حقيقية، انما اشارة رمزية تعليمية، مثلما يستشهد بنصوص رمزية أخرى.
اسم يونان بن أمتاي، مقتبس من العهد القديم، وهو نبي تاريخي عاش في السامرة، عاصمة مملكة اسرائيل نحو القرن الثامن قبل الميلاد، على الأرجح في زمن يارُبعام الثاني (787-747 ق. م.). يونان النبي الحقيقي لم يخلّف نصّاً مكتوباً، بل وعظ شفوياً مثلما فعل إيليا واليشاع وآخرون. وقد أورَدَ سِفر الملوك الثاني (14/ 25)، اسمه، من دون ذكر شيء عنه ولا انه ذهب الى نينوى. هذا لا يعني البتة أن النص الحالي ليس جزءً من الكتاب المقدس المعترف به من قبل جميع الكنائس، بل أوكد انه أحد أسفار الكتاب المقدس ويحمل رسالة دينية بليغة.
لفظة يونان بالعبرية والسريانية تعني الحمامة، والمسلمون يسمونه يونس، ويلقبونه بذي النون أي صاحب السمكة – الحوت. اسمه المعكوس هو نينوى: ي و ن ا ن / ي ون ي ن، مع الأخذ بنظر الاعتبار تحول حروف العلة!
جعل كاتب السِفر شخصية يونان المغمور، بطلاً لروايته الرمزية، ليجسدّ الخطّ اليهودي شديد التعصب، تجاه الاُمم الوثنية، بينما الكاتب يمثل الخط المنفتح تجاه جميع البشر.
“باعوثا – ܒܥܘܼܬܐ“ تعني بالسريانية الطلب والابتهال. باعوثا ممارسة روحية مسيحية رائعة وغنية بنصوصها الجميلة. باعوثا تعود الى زمن البطريرك حزقيال (570—-581) الذي امر، اثر انتشار وباء الطاعون في بلاد ما بين النهرين، ووفاة عدد كبير من الناس، ان يصوم المؤمنون ثلاثة أيام ويقيموا الصلاة لينتهي الطاعون اللعين، تماماً مثلما فعلنا ونفعل في أيامنا هذه لتَعبر جائحة كورونا. بعدها قامت الكنيسة بصياغة وترتيب طقس الباعوثا التي نحييها سنويّاً. ومعظم نصوصها نظمها مار أفرام (+373) على أساس سفر يونان.
اللّه هو للجميع
يقدم كاتب السِفر وهو لاهوتيٌّ مستنير ومنفتح، تعليماً جديداً، عن اللّه. انه يؤكد ان اللّه هو للجميع، ورحمته الواسعة تشمل كلِّ التائبين، وليس كما يدّعي اليهود انه الههم وحدهم بكونهم الشعب المختار. الكاتب المطَّلع على ثقافات الشعوب المجاورة وواقعها، يرى حتمية حقيقة تضامن اللّه المُحِب مع الخطأة والفقراء بطريقة سامية ورغبته في خلاصهم. يوَد الكاتب ان يُظهرَ لليهود المتطرفين ان اللّه هو لكل البشر.
اللّه رحوم وغفور
كلمة يونان بالعبرية والسريانية تعني الحمامة كما ذكرت أعلاه، لكن النبي لم يكن حمامة السلام، بل مهدداً بالعقاب، في حين أن كاتب السِفر هو حامل رسالة السلام ومحبة اللّه لجميع البشر. يونان شديد التعصب لقوميته ودينه، يرفض أمر اللّه بالذهاب الى مدينة غير يهودية وشعب معادٍ لامته، ويهرب الى اتجاه معاكس، لكن اللّه يُجبره على الذهاب الى نينوى ليدعو أهلها الى التوبة. وعندما صام جميع أهل نينوى صوما صارماً، ابتداء من الملك والناس والأطفال الرضَّع والبهائم، وتابوا، وغفر اللّه لهم، امتعض يونان من موقف اللّه الرحوم وتذمر ورفض خلاص نينوى لان في ذاكرته لا يزال حيّاً سبي الآشوريين مملكة إسرائيل العام 722 قبل الميلاد، وكيف استعمل اللّه الاشوريين لمعاقبة شعبه.
موقف يونان يمثل موقف إسرائيل المتطرف، بينما كاتب السفر يؤمن بان الخلاص هو للجميع وليس حصراً باليهود. موقفه هذا يتماشى مع تعليم يسوع الذي جاء ليخلّص العالم. ويبين الكاتب ان الوثنيين هم اكثر استعداداً للتوبة والتغيير من النبي ومن اليهود. هذا ما أكده أيضاً الإنجيل بخصوص رسالة المسيح: “اتى الى خاصَّته وخاصَّته لم تقبله” (يوحنا 1/ 11).
مار افرام: يونان ونينوى نموذج للتوبة
يفسّر مار أفرام سِفر يونان بفنٍ شعري جذاب في ميامره (مواعظه) التي نرتلها بلحن شجي وكأنها سمفونية صلاة وتسبيح وانكسار على خطايانا والأمل بنيل المغفرة.
مار افرام يدعو النبي يونان واهل نينوى ليكونوا نموذجا للتوبة3. ويذكر انه كان يتعين على يونان الذي كلّفه الله ليَعِظ أهل نينوى بالتوبة أن يفرح بتجاوب أهلها الطيّب مع كرازته، ويشكره على رحمته الواسعة تجاههم بدل من أن يتمرد ويتذمر ويحزن.
يعلّمنا سِفر يونان الثقة برحمة الرب، والصلاة من أجل الآخرين والفرح بتوبتهم، بدل التذمر أو التشفي! إن مثل الابنين الضالين في الانجيل (لوقا فصل 15) يعرض بوضوح الموقفين المتقاطعين في سفر يونان: التوبة-المغفرة والتعصب – العناد: الابن الأصغر الخاطيء تاب، والابن الأكبر رفض عودة أخيه، وانتقد أباه كما انتقد يونان الله…
هذه الرسالة نُشرت على موقع بطريركيّة بابل للكلدان، لقراءة المزيد إضغط هنا.