قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني في قدّاس عيد الميلاد: كلّ إنسان على هذه الأرض مسؤول عن أخيه الإنسان… نحن حرّاس بعضنا بعضًا
صباح يوم الأحد ٢٥ كانون الأوّل/ ديسمبر ٢٠٢٢، إحتفل قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة في العالم، بالقدّاس الإلهي لمناسبة عيد الميلاد المجيد في كاتدرائيّة مار جرجس البطريركيّة في باب توما - دمشق، سوريا.
وقد عاون قداسته في القدّاس الإلهي نيافة المطارنة: مار كيرلس بابي، النائب البطريركي لأبرشية دمشق البطريركيّة، ومار يعقوب باباوي، النائب البطريركي لشؤون الرهبان وإدارة إكليريكيّة مار أفرام السرياني اللّاهوتيّة في معرة صيدنايا، ومار يوسف بالي، السكرتير البطريركي، والمطران أرماش نالبنديان، مطران الأرمن الأرثوذكس في دمشق، إلى جانب إكليروس البطريركيّة في دمشق وطلّاب دير مار أفرام السرياني وجوقة مار أفرام السرياني الّذين خدموا القدّاس الإلهي.
وألقى قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني موعظة روحيّة جاء فيها:
"فَقَالَ لَهُمُ ٱلْمَلَاكُ: «لَا تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ." (لو 2: 10-11)
إنّها بُشرى أي خبر سار، يزفّه الملاك لمجموعة من الرعاة الساهرين الليل البارد يحرسون قطيع أغنامهم خارج مدينة بيت لحم، مدينة داوود الملك والنبيّ، أي مدينة المُلك والنبوءة، وهي من وظائف المسيح المُنتظَر الذي يُعلَن للعالم ملكًا ونبيًّا ومعلّمًا. وبذلك تتحقّق نبوءة ميخا النبيّ الذي ذكر بالتحديد اسم المدينة التي يولد فيها المسيح المخلص بقوله: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا ، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ ، مُنْذُ أَيَّامِ ٱلْأَزَلِ». (ميخا ٥: ٢)
وقد قَبِل اليهود بهذه البنوءة كإحدى الدلالات على مجيء المسيح المخلّص. لذلك نراهم يرجعون إليها عندما يَسأل هيرودس رؤساء الكهنة وكتبة الشعب "أين يولد المسيح؟"
أمّا دافِع هيرودس للسؤال، فلم يكن رغبةً منه بزيارة الطفل الإلهي لعبادته، بل هو خوفٌ ممّا سمعه من المجوس الملوك الذين جاؤوا من المشرق، مُهتدين بملاك يظهر لهم كنجم قادهم إلى أرض اليهودية يسألون عن الطفل المولود، ملك اليهود، وقد جاؤوا للسجود له.
في مثل هذا اليوم، أصبحت بيتُ لحم، تلك القرية المنسيّة، محطَّ أنظار كلّ العالم إذ في أحد كهوفها يولد طفلٌ ليس ككلّ الأطفال. له أمّ بشريّة بدون أب، وله أبٌ إلهي بدون أمّ، لأنّه إله من إله.
له مظهرُ طفلٍ وهو قديم الأيّام الذي تنبّأ عنه دانيال. ليس له بداية، بل مخارجه منذ القديم منذ أيّام الأزل، كقول ميخا النبي. يرضع الحليب كمحتاج وهو الغني الذي يقيت العالم بأسره.
تناغيه أمّه العذراء كرضيعٍ، ويأتي الرعاة للسجود له وملوك المشرق يقدّمون له هداياهم ذهبًا ولبانًا ومرّا.
إنّه الطفل العجيب الذي قال عنه إشعياء النبيّ: "لِأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْنًا، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلَهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ ٱلسَّلَامِ." (إشعياء 9: 6).
بميلاده، كملَتْ نبوءاتُ العهد القديم التي كان الشعب ينتظر أن تتحقّق بفارغ الصبر، ولكنّهم رفضوه ولم يؤمن بذلك المولود الإلهي إلّا القلّةُ القليلة، لا بل ذهبوا أبعد من ذلك بأن حرّضوا عليه ملكَهم الرضي هيرودس الذي خاف على مُلكه من هذا الطفل الرضيع، سيّما وأنّ المجوس دعوه "ملكَ اليهود"، فأمر بقتل أطفال بيت لحم من ابن سنتين وما دون.
وما زال شعب العهد القديم يرفضون من جاء ليخلّصهم ويقودهم إلى الحياة الأبديّة، مؤثرين البقاء في ظلمات أفكارهم وطرقهم المعوجّة، على الاستنارة بنور العالم الذي جاء ليُنير للجميع، علمًا أنّ إشعياء النبيّ سبق وأعلمهم بهذا الحدث العظيم بقوله:
"اَلشَّعْبُ ٱلسَّالِكُ فِي ٱلظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. ٱلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلَالِ ٱلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ." (إِشَعْيَاءَ 9: 2)
واليوم، أيّها الأحبّاء، وبعد أكثر من ألفي سنة على ذلك الحدث التاريخي العظيم الذي أصبح حدًّا فاصلًا ما بين قبل وبعد فنقول العام الفلاني قبل الميلاد والتاريخ الفلاني بعد الميلاد، أين نحن من ذلك النور الموعود به وتلك الإستنارة المنتظرة ؟ فالعالم ما زال في ظلمة الجهل والعبودية والاستغلال والكراهية.
ما الّذي تغيّر في عالمنا سوى ازدياد شقاء الإنسان وآلامه؟ والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى جشع الإنسان وطمعه وإلى استغلال القويّ للضعيف. فنرى الحروبَ بين الأمم المتجبّرة وغالبًا على أراضي دولٍ ثالثة وهي بأغلبها تنافس على استملاك الطاقة وموارد الطبيعة.
وهنا في مشرقنا العزيز، وخاصّة في بلدنا الحبيب سورية، وإن كانت العمليات العسكريّة قد انحسرت كثيرًا بفضل دم شهدائنا الأبرار وتضحيات جرحانا من الجيش السوري الباسل والقوى الرديفة، لكنّ الحرب لم تنتهِ بل ما زالت مستمرّة بوجهها الإقتصادي القبيح، حيث تُستباح كرامة الإنسان من خلال إذلاله في الحصول على ما يحتاجه من طعام ومياه ووقود وغيرها من أبسط ضروريّات الحياة، وذلك بسبب العقوبات غير القانونيّة والحصار الظالم المفروض علينا لكسر إرادتنا.
واليوم، تسمع بمشروع قانون جديد يهيّئ له الكونغرس الأميركي وكأنّ قانون قيصر لا يكفي. أليس من حقّنا أن نسأل مَن الّذي أعطى هذه الدول الّتي تسمّى بالعظمى حقّ استعباد وقهر غيرها من الشعوب؟ هل العظمة تكمن في ممارسة الظلم والطغيان، أم في مدّ يد العون للدول والشعوب الضعيفة والمحتاجة؟
نعم، كلّ إنسان على هذه الأرض مسؤول عن أخيه الإنسان. لا نستطيع أن نتشبّه بقايين الّذي عندما سُئِل عن أخيه هابيل أجاب: "أحارسٌ أنا لأخي؟" بالفعل، نحن حرّاسُ بعضنا لبعض…
هذا الخبر نُشر على صفحة قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني على موقع فيسبوك، لقراءة الموعظة كاملةً إضغط هنا.