كلمة غبطة البطريرك يوحنا العاشر في تدشين بناء وقف دير صيدنايا في حاصبيا

في التالي كلمة غبطة غبطة البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس، خلال الإحتفال الّذي أُقيم لمناسبة تدشين بناء وقف دير صيدنايا في حاصبيا، لبنان، يوم الأحد 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.

أصحاب السيادة،

أيّها الأحبّة،

على اسم العذراء مريم أردنا أن يكون اجتماعنا اليوم. وعلى عبق بخور شاغورة صيدنايا جئنا نلاقي وجوهكم الطيبة. من مجد أنطاكية المسيحية، جئنا حاملين في صلواتنا حاصبيا بأهلها الطيبين وبجوارها الرحب. ومن شاغورة صيدنايا التي تبخر ثرى حرمون، الجبل الكتابي الأشم، جئنا نحيي جنوب العز وبقاع الشهامة ولبنانَ الغالي الذي يستمد اسمه من بياض الثلج المكللِ قممه الشامخة والمستمدِّ سطوعَه من شموخ وصلابة الأرز.

أتوجّه بالشكر بادئ ذي بدء لله العلي القدوس الذي جمعنا اليوم وارتضانا مذيعين بهاء مجده ببهاء لقيانا. وأشكر أيضًا الابن الروحي غسان شحاده قنتيس الذي جادت أريحيته وترجم محبته لكنيسته فشيد هذ البناء وأعطى بتهليلٍ فكان مصداقاً لقول الرسول بولس "إنّ اللّه يحب المعطي المتهلل".

ومن وجه غريغوريوس الرابع حداد بطريرك أنطاكية وابن عبيه بتاريخها وأعلامها يحلو لي ويطيب أن أحيي إخوتنا في طائفة الموحدين الدروز بني معروف. أحييكم اليوم إخوتي الحاضرين وأؤكد أننا وإياكم أبناء الجبل الأشم وأبناء البقاع الرحب وأبناء كل ذرةٍ من تراب هذا الوطن الذي يجمعنا لا بل يضمنا دوماً إلى ترابه الذي نعشق. أستذكر اليوم وإياكم بعض ما قاله هذا البطريرك الحكيم ابن جبل لبنان ومطران طرابلس لاحقًا وبطريرك أنطاكية 1906-1928: "إنني أحبّ أبناء وطني من جميع المذاهب على السواء. ولا فرق بينهم عندي. ألستُ وإياهم أبناء أب واحد وأم واحدة. أوَلسنا جميعاً صنعة خالق واحد. أوَ لسنا نسكنُ أرضًا واحدة ونستنير بضوء شمس واحدة ونستظلُّ بسماء واحدة وترفرف فوقنا رايةٌ واحدة هي راية الوطن العزيز؟ أوَ لسنا نحن والمسلمون توحّدنا جامعة الانتساب إلى أرض واحدة ووطن واحد؟".

هذا لسان حال بطريرك العرب كما لقبه معاصروه. هذا لسان حاله ولسان حال بطاركة أنطاكية دومًا وأبدًا. هذا لسان حال كنيسة أنطاكية الأرثوذكسية التي جمعت الكل دوماً. وليس غريباً ولا مستغرباً أن يكون أربعةٌ من بطاركتها في القرن العشرين من أبناء جبل لبنان وهم غريغوريوس الرابع حداد ابن عبيه الذي لم يعرف رغيفه التمييز بين مسيحي وغيره أيام مجاعة الحرب الأولى وأرسانيوس حداد ابن عبيه أيضاً وثيودوسيوس السادس بو رجيلي ابن بحمدون والياس الرابع معوض ابن جورة أرصون الذي وعلى غرار أسلافه انجبل بالعيش الواحد وترجمه في محطاتٍ ومحطات كان أبرزها مشاركته في مؤتمر لاهور-القمة الإسلامية من أجل القدس سنة 1974 فكان صوتاً مسيحيًا أرعد حقًا في لاهور فأكد أن قضيته الأولى والأخيرة كمسيحي هي القدس بما تحمل من رمزيةٍ. لم يعرف إلى القوقعة سبيلًا وكان لسان حال كنيسة أنطاكية التي ترى في وجه الآخر بعضاً من رحمانية اللّه.

نجتمع اليوم لنؤكّد أننا كمشرقيين، مسيحيين ومسلمين من كل الأطياف، مجبولون من رحم هذه الأرض ومن كنف هذا الجبل ومن أريحية هذا السهل. نجتمع لنؤكد أننا أبناء هذه الديار. من ترابها عُجِنَّا وإلى ثراها سنعود إلى جوار أجدادنا مهما قسى عليها وعلينا وجه التاريخ. نحن معكم ومنكم يا إخوة ونبقى وسنبقى كما تبقون أنتم من رحم هذه الأرض المشرقية. معاً بنينا أديارنا ومعاً بنينا خلواتنا وصوامعنا. معًا بنينا كنائسَ ومعًا بنينا جوامع. معاً عشنا ومعًا سنعيش رغم وعورة التاريخ ورغم صواعده ونوازله. نحتنا من صخر هذه الأرض معابدنا عربون عرفانٍ لساكن السماء الذي عبرنا عنه بالنور. والنور وجدناه في النفس ومن النفس مشرقاً أولاً وأخيراً.
نجتمع اليوم في حاصبيا وعلى مقربةٍ من عيد الاستقلال. نجتمع وعلى مقربةٍ منا قلعة راشيا التي ضمت قبل حوالي ثمانين عاماً بين جدرانها رجالات الاستقلال. لم يسأل المستعمر يومها عن دينهم وعن طوائفهم. كانوا من كل الأطياف ومن كل بقاع هذا الوطن الحبيب لبنان. بتضامنهم وتكاتفهم لا بغيره نالوا استقلال أرضهم. نحن اليوم نستذكر هؤلاء ونقول كم نحن بحاجةٍ إلى رجال دولةٍ في هذه الأيام التي يعاني فيها لبنان من الفراغ أو الشغور -سموه ما أردتم- في سدة الرئاسة الأولى.

نحن بحاجةٍ إلى رجال دولةٍ يعون ويثقون ويدركون، وعلى الرغم من وجود تأثيرات أو ارتدادات خارجيةٍ، أن انتخاب رئيسٍ هو أولًا وآخرًا مسؤولية نواب الأمة دون سواهم وأن التحجج بتوازنات الخارج ما هو إلا ذرٌّ للرماد في العيون للتهرب من مسؤوليةٍ تاريخيةٍ أنيطت بهم وحدهم. نقول هذا ونهيب بنواب الأمة تحمل مسؤولياتهم التاريخية بانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. لبنان لا يتحمل أن يكون محطاً للترف السياسي. ولا يتحمل أن تكون منابره موطنًا للمناكفات وأن تكون مؤسساته مرتعًا للاهتراء وأن يكون إنسانه لقمةً للفقر وللعوز وللتهجير.

ندعو من ههنا إلى إحقاق العدالة في ملف انفجار مرفأ بيروت ذاك الجرح الذي لم يندمل منذ أكثرَ من عامين. وإذ نطلب العدالة في هذا الملف، نصلي من أجل الذين قضوا وانتقلوا سائلين لهم الرحمة الإلهية. نصلي من أجل الجرحى ونسأل اللّه أن يعزي قلوب الجميع. نصلي أن يلهم اللّه المسؤولين لما فيه خير بلدنا لبنان.
يكفي هذه الأرض ما واجهت وتواجه. ويكفي إنسانَ هذا الشرق ما مرَّ عليه من ويلات طالت الجميع. ليس أولها ولا آخرها ما جرى في سوريا وما يجري إلى الآن من حصار اقتصادي يطال أولاً وأخيراً إنسان هذه المنطقة…

هذه الكلمة نُشرت على صفحة بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس على موقع فيسبوك.

Previous
Previous

قداسة البابا تواضروس الثاني يفتتح بيت اللّوتس للمؤتمرات في العبور

Next
Next

المنظّمات الكاثوليكيّة تشارك في قمّة التغيّر المناخيّ كوب27 في مصر