موعظة قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني في عيد الميلاد ٢٠٢١

في التالي عظة عيد الميلاد لقداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة في العالم، خلال القدّاس الإلهيّ يوم السّبت ٢٥ كانون الأوّل/ ديسمبر ٢٠٢١ في كاتدرائيّة مار جرجس البطريركيّة – باب توما في دمشق، سوريا.

في هذا الصباح المبارك، ونحن نحتفل بالقداس الإلهي في كاتدرائيّة مار جرجس البطريركيّة للسريان الأرثوذكس، نزفّ أحرّ التهاني وأطيب الأماني إلى كلّ أبناء سوريا من مسلمين ومسيحيّين، وفي مقدّمتهم رئيس البلاد المحبوب سيادة الدكتور بشار الأسد، وأركان حكومتنا الرشيدة التي يأمل منها المواطنون الكثير في مجال مكافحة الفساد وتوفير السلع والخدمات الضرورية للحياة الكريمة التي هي حقّ لكلّ إنسان وخاصة الذين تحمّلوا أعباء الحرب الكونية التي فُرضت علينا وأصرّوا على البقاء في الوطن رغم المعاناة الكبيرة. ونخصّ بالمعايدة البطلات أمّهات شهداء الوطن من أفراد جيشنا الباسل والقوى الرديفة، مترحّمين على أرواحهم الخالدة، ومصلّين من أجل جميع الجرحى والمصابين أن يمنحهم الربّ الإله تمام الصحة والعافية.

كما إنّنا نتضرّع إليه تعالى أن يُبعد عنّا أشباح الحروب والمجاعة، وأن يلاشي عن العالم أجمع وباء كورونا، وأن يعمّ سلامه كلّ المسكونة. وخاصة على سورية ولبنان والعراق وعلى كلّ أرجاء مشرقنا العزيز الذي يعاني من انعدام الأمن والاستقرار ويرزح أبناؤه تحت آفات الفقر والجوع والعوز. ذلك السلام الذي أنشدته أجواق الملائكة في سماء بيت لحم، قائلين: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر".

واليوم، في عيد الميلاد المجيد، كما في كلّ يوم، نستذكر بألم كبير ونصلّي بأمل عظيم من أجل الأخ العزيز والحبر الجليل مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، مطران حلب وتوابعها، وأخيه المطران بولس يازجي، أن نسمع عنهما ما يسرّ القلوب وأن تصل هذه المأساة إلى خواتيم رغم انعدام الأخبار عنهما منذ سنين.

ومن هنا، من قلب دمشق مدينة الآباء والأجداد، نبعث بتهنئتنا القلبية إلى إخوتنا أصحاب النيافة المطارنة الأجلاء وأبنائنا الكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة الأعزاء وأفراد شعبنا السرياني الأرثوذكسي في العالم أجمع، متمنّين للجميع موفور الصحة والعافية وأعياد الخير والبركة، مشمولين بعناية الطفل، مولود بيت لحم، وصلوات أمّه القدّيسة العذراء مريم وجميع الشهداء والقدّيسين، آمين.

"بالإجماع، عظيمٌ هو سرّ التقوى، اللّه ظهر بالجسد" (1 تيم 3: 16)

اللّه سرٌّ ما مِن بشر يعرف كنهه. لذلك، يكتب الرسول يوحنا الإنجيلي في الإصحاح الأوّل من إنجيله: "اللّه لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبّر" (يو 1: 18). قد طالب موسى رأس الأنبياء رؤيته بقوله: "أرني مجدك"، فأجاب تعالى بقوله: "لا تقدر أن ترى وجهي، لأنّ الإنسان لا يراني ويعيش"، ولئلا يعود موسى خائباً، قال له الربّ: «هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ، فَتَقِفُ عَلَى ٱلصَّخْرَةِ. وَيَكُونُ مَتَى ٱجْتَازَ مَجْدِي، أَنِّي أَضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ، وَأَسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أَجْتَازَ. ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وَأَمَّا وَجْهِي فَلَا يُرَى ». (خر 33: 21-23).

إذاً، اللّه الذي هو روح لا يُرى من قِبَل أيّ كائن، وإذا ما أراد أن يُري نفسه لبشر، لما استطاع الإنسان النظر إليه، لأنّه متّشح بالمجد الفائق البهاء.

ثم أمر اللّه موسى أن يستعدّ بالصوم والصلاة، ويصعد إلى جبل سيناء، وهناك أُخذ موسى إلى منخفض في الجبل كيلا تقع عيناه على مجد اللّه. ولمّا نزل موسى من الجبل، كان وجهه يشعّ نورًا قويًّا، لم يستطع أن ينظر إليه بنو إسرائيل، فكان يضع برقعاً على وجهه عند لقائه بهم. هذا هو سرّ عدم تمكّن الإنسان من رؤيته تعالى.

وهكذا أصبح اللّه سرًّا عجيبًا عند البشر الذين لم يستطيعوا إدراك جوهره، فأصبح مجهولًا لديهم، وأخذوا يخافونه كما نخاف من كلّ مجهول. وأصبحوا يعبدون الأشياء المخلوقة، أملًا منهم وتوسّلاً للوصول إلى الخالق. فانتشرت عبادة الأصنام، وتعدّدت الآلهة. ورغم ذلك، بقي الإنسان يسعى من أجل معرفة الخالق والوصول إلى كنه السرّ العظيم. فخصّص أهل أثينا بين معبوداتهم مذبحاً للإله المجهول، فأخذ بولس الرسول يشرح لهم عن هذا الإله المجهول الذي جاء يبشّرهم به، قائلا لهم:

«أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْأَثِينِوِيُّونَ! أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيرًا، لِأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ، وَجَدْتُ أَيْضًا مَذْبَحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: «لِإِلَهٍ مَجْهُولٍ». فَٱلَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ ، هَذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ." (أع 17: ٢٢-٣٢).

ثمّ أخذ يصف لهم هذا الإله بقوله لهم إنّه: "ٱلْإِلَهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هَذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ، لَا يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلْأَيَادِي،" (أع 17: 24).

ثمّ بيّن علاقة هذا الإله المجهول بالإنسان، مُظهراً لهم أنّ هذا الإله ليس ببعيد عن البشر، ولم يعد مجهولًا لديهم كما ظنّوا، مُضيفًا: "لِأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا: لِأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ." (أع 17: 28)

وكان لا بدّ لهذا السرّ أن يُكشَف أمام الناس لكي يتمّ عمل الفداء الذي كان في ذهن اللّه حتّى قبل خلق العالم. يقول القديس بولس الرسول عنه إنّه: "ٱلسِّرّ ٱلْمَكْتُوم مُنْذُ ٱلدُّهُورِ وَمُنْذُ ٱلْأَجْيَالِ، لَكِنَّهُ ٱلْآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ، ٱلَّذِينَ أَرَادَ ٱللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هَذَا ٱلسِّرِّ فِي ٱلْأُمَمِ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ." (كولوسي 1: 26-27)

إذاً، هذا السرّ المكتوم هو يسوع المسيح، اللّه المتجسّد، الذي ظهر للعالم بواسطة ميلاده البتولي من العذراء مريم في مدينة بيت لحم عند ملء الزمان. وذلك بسبب محبّته الجمّة لخليقته التي لم يشأ أن يتركها بعيدة عنه، مثخنة بجراحاتها الروحية، بل جاء مُخلياً ذاته كما يقول الرسول بولس، وصائراً في شبه الناس.

هي المحبّة إذاً التي جعلته ينزل إلينا. ولا عجب! فهو المحبّة ذاتها، لذلك قال يوحنا الرسول في رسالته الأولى: "لأنّ اللّه محبّة" (١ يو ٤: ٨)

إنّ سرّ اللّه الذي كان مكتوماً عن البشرية، لم يعد كذلك، بل تجلّى لنا وأصبح قريبًا من كلّ واحد منا، عمانوئيل - اللّه معنا - بواسطة ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد.

ولأنّه تجسّد وظهر بيننا، أُعطينا الفرصة أن نحبّه فلا نعود نخاف منه، "لأنّ المحبّة الكاملة تطرح الخوف خارجًا" (1 يو 4: 18). وهكذا، تغيّرت علاقة الإنسان بربّه وخالقه من علاقة خوف وإرهاب إلى علاقة محبّة وودّ. لم نعد نعبده لأنّنا نخاف غضبه، بل لأنّنا نحبّه كما أحبّنا هو. نؤمن به ونعمل بوصاياه، لا خوفًا من نار جهنم وعذاب أليم، بل طمعاً بنور الجنّة وسعادة أبدية في ملكوته الروحيّ.

إنّ محبّة اللّه غير المتناهية للبشر هي التي جعلته يُخلي ذاته من مجده العظيم وينزل إلينا ليشاركنا بشريّتنا، ليرفعنا إليه ونشاركه ألوهيته، أي أن نسير بدرب القداسة لأنّه هو القدّوس ومقدِّس الجميع.

في عيد تجسّد وميلاد المحبّة هذا، ونحن في هذه الأيّام الصعبة التي نمرّ بها حيث نرى مَن لا يجد بيتًا يأوى إليه،

مَن ترتعد أوصاله من برد الشتاء القارس ولا يعرف للدفء سبيلًا

مَن يحتاج إلى الخبز ليسدّ جوعه

مَن يعيش وحيداً بسبب فقدان الأهل والأصدقاء،

نرى الأرملة التي فقدت زوجها والأمّ الثكلى التي قدّمت ابنها شهيدًا يدافع عن الوطن.

أمام كل هذه المعاناة القاسية، دعونا نتأمّل بعظمة هذا الطفل المضجع في مذود وهو القديم الأيّام كما وصفه حزقيال النبي

هذا الفقير الذي لم يجد بيتاً يستقبله في مدينة بيت لحم، فوُلِد في مغارة حيوانات وهو مانح الغنى والعطايا للجميع.

هذا الجائع الذي يرضع حليبًا من أمٍّ عذراء، وهو الذي يقيت الجميع من خيراته.

هذا المقمّط بالخِرَق، وهو الذي يُلبس خلائقه الجمال ويكسوها بالبهاء.

هذا الرضيع الذي يقصده الرعاة مقدِّمين له سجودهم، والمجوس من المشرق مقدِّمين له هداياهم ذهبًا ولباناً ومرا.

نرى يوسف البار، خطيب العذراء غارقاً في سعادة لا توصف إذ قد أصبح مربّيًا بالجسد لخالق الكون.

وأخيرًا، ننصت بخشوع وسكينة إلى العذراء مريم وهي تنشد بصوت رخيم لمولودها الإلهي ممجّدة اللّه لأنّه افتقد شعبه بالخلاص والحياة الأبديّة.

ميلاد مجيد وعام سعيد.

هذه العظة نُشرت على الصفحة الرسميّة لقداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني على موقع فيسبوك.

Previous
Previous

رسالة غبطة البطريرك كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث لمناسبة عيد الميلاد المجيد ٢٠٢١

Next
Next

رسالة غبطة البطريرك يوسف العبسيّ لمناسبة عيد الميلاد المجيد ٢٠٢١