عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي الأحد الثّاني بعد الصّليب
تجدون في التالي عظة غبطة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، الأحد الثّاني بعد الصّليب، 26 أيلول/ سبتمبر 2021، في الديمان، لبنان:
"حينئذٍ يبغض بعضهم بعضًا" (متّى 24: 10)
1. بعد أن تنبّأ الربّ يسوع عن خراب هيكل أورشليم، ظنّ التلاميذ أنّ هذا يعني نهاية العالم ومجيء الربّ الثاني بالمجد. فسألوه عن وقت حدوثه. أمّا جواب يسوع فتناول نتائج هذا الخراب المزمع أي: تضليلات وفتن وحروب ومجاعات وظلم وتعديات، وجفاف المحبّة في القلوب، "وحينئذٍ يبغض بعضهم بعضًا" (متّى 24: 10).
2. الرابط بين خراب هيكل أورشليم، المدينة المقدّسة، وهذه المآسي التاريخيّة التي تتواصل من جيل إلى جيل، هو إقصاء اللّه عن الذات، وعن حياة الجماعة. وعند ذلك لا حاجة إلى هيكل يُعبد اللّه فيه بالشفاه، فيما أعمال الشرّ وأفكار السوء والحقد والبغض والحروب تتواصل. كانت علامة خراب الهيكل ونتائجه هذه ما جرى عند صلب يسوع، الإله المتأنّس لخلاص البشر، وموته فوق الخشبة، كما يروي الإنجيليّون: "وصرخ يسوع صرخةً عظيمة وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل قد انشقّ شطرين، من فوق إلى تحت، والأرض تزلزلت، والصخور تشقّقت" (متى 27:50-51). فلأنّ ربّ الهيكل قُتل، لا حاجة بعد الآن إلى هيكل حجريّ. وهكذا تمّت النبوءة بعد أربعين سنة على يد الرومان أي سنة 70.
3. استبدل الربّ يسوع الهيكل الحجريّ بالهيكل الشخصيّ، هيكل كيان الإنسان المؤمن الذي يصبح "منزل اللّه" (يو 14: 23)، وهيكل الروح القدس (1 كور 6: 19). أمّا كنائسنا الحجريّة فهي المكان الذي نلتقي فيه اللّه، وحيث نتقبّل وسائل الخلاص: كلمة اللّه، ونعمة ذبيحة الفداء، والحياة الجديدة بتناول جسد الربّ ودمه، وحيث نعيش شركة البنوّة لأب واحد سماويّ، والأخوّة فيما بيننا وتجاه كلّ الناس.
أجل، إقصاء اللّه، إقصاء كلامه ووصاياه، ونعمته، والحياة الجديدة، يهدم الهيكل الشخصيّ مع تأثير هذا الهدم على الحياة الإجتماعيّة والوطنيّة، فتفكك عراها، وتسود الأنانيّة، والمصلحة الذاتيّة والروح الماديّة والإستهلاكيّة. وينفرط عقد العائلة الصغيرة والكبيرة.
4. تحيي الكنيسة في هذا الأحد اليوم العالميّ المئة والسابع للمهاجرين واللاجئين. فوجّه للمناسبة قداسة البابا فرنسيس رسالة بعنوان "نحو ”نحن"اوسع واوسع"، يؤكّد قداسته أن مشروع اللّه الخالق هو أن يشكّل البشر على تنوّعهم عائلة بشريّة واحدة، ويؤلّفون معًا ال "نحن" الذي يجب أن يصبح اوسع واوسع بتكاثر الأجيال. فقد خلقنا اللّه على صورته، على صورة كيانه الواحد والثالوث، لنكون شركة في التنوّع.
5. سمعتم أن فجر أمس دخل لصوص كاتدرائيّة مار مارون في بيونس أيرس-الأرجنتين، ونهبوا محتوياتها الثمينة المتنوّعة، حتى أنّهم دنّسوا جسد الربّ، إذ فتحوا بيت القربان، وسرقوا الكؤوس ورموا القربانات المقدّسة أرضًا. إنّنا ندين مع سيادة أخينا المطران يوحنا حبيب شاميّة، راعي الأبرشيّة، ومع أبنائنا الآباء المرسلين اللبنانيّين الموارنة، ومع كلّ المؤمنين، هذا التدنيس والتعدي على جسد الربّ، وعلى هيكل اللّه، ونقيم هذه الذبيحة المقدّسة تعويضًا ونكفيرًا عن هذا الشرّ التدنيسيّ. وقد علمنا أنّ قدّاسًا مماثلًا يحتفل به اليوم راعي الأبرشيّة بحضور رئيس الوزراء الجديد المارونيّ واللبنانيّ الأصل الدكتور خوان منصور، وبحضور أبناء الجالية المارونيّة واللبنانيّة والمؤمنين المحليّين بيونس ايرس.
6. عندما أقصى الإنسان اللّه، عاد ربّنا فصالحه بكثرة رحمته الأسرة البشريّة كلّها، كلّ الشعوب. وهذا كشفه على لسان يوحنّا الرسول في رؤياه: "هوذا مسكن اللّه مع الناس، يسكن اللّه معهم، وهم يكونون له شعبًا، واللّه معهم يكون لهم إلهًا" (رؤيا 21: 3).
ويقول البابا فرنسيس: "يتبيّن لنا في الوقت الحاضر أنّ ال "نحن" التي أرادها اللّه هي اليوم محطّمة ومشرذمة ومجرَّحة ومشوّهة. وهذا ظاهر في القوميّات المنغلقة والعدوانيّة والفرديّة المتطرّفة. والثمن الأغلى يدفعه أولئك الذين يصبحون "الآخرين"، وهم الغرباء والمهاجرون والمشرّدون والمظلومون والمهمّشون الذين يعيشون في الضواحي الوجوديّة.
7. ويقول البابا فرنسيس في رسالته لنحقّق الشركة في التنوّع، والتوفيق بين الإختلافات، من دون أن نفرض أبدًا توحيدًا يزيل سمة الشخصيّة عن أي واحد أو جماعة. هذه بالحقيقة ميزة لبنان وهو بحاجة إلى استعادتها.
فمنذ إنشاء دولة لبنان، كانت ميزته التعدّديّة الثقافيّة والدينيّة، أي شركة في التنوّع. وهذا واضح في دستور الجمهوريّة الأولى سنة 1926 وجاء الميثاق الوطني سنة 1943 ليعبّر عن هذه الشركة في التنوّع بكلمة العيش المشترك الذي أدخل في مقدّمة دستور الجمهوريّة الثانية سنة 1990 بعد اتفاق الطائف (1989).
إنّ سوء الأداء السياسيّ والخيارات السياسيّة الخاطئة، وعدم الولاء للوطن، والإستقواء بالخارج، شوّه هذه الميزة عندنا، وأوصل البلاد إلى الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة والإجتماعيّة والأمنيّة الخانقة.
8. يتطلّع الجميع إلى الحكومة الجديدة رابطين تأييدهم لها بتخفيفها معاناة الشعب، وحلّ مشاكل الحياة اليوميّة، وإطلاق الإصلاحات، وتصدّيها لكلّ ما ينال من سيادة الدولة وهيبتها وحرمة حدودها. مسؤوليّتها أن تُحي الأملَ بلبنانَ الواحِد في إطارِ الحِياد، واللامركزيّةِ الموسّعةِ، والتفاعلِ الحضاريِّ بين مُكوِّناتِه تحت سقفِ دولةٍ حرّةٍ ومستقِلَّةٍ ومستقِرّة. وفي هذا الإطارِ من واجب الحكومة أن تُحِّركَ المؤسّساتِ والأجهزةَ للقيامِ بواجباتِها حثيثًا، فالأمر الواقع بات يهدد وحدة لبنان وصيغة الشراكة الوطنيّة …
هذه العظة نُشرت على موقع البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، لقراءة المزيد إضغط هنا.