عظة قداسة البابا تواضروس الثاني في إجتماع الأربعاء 15 أيلول/ سبتمبر 2021

242144281_216601000511896_787732200196256344_n.jpg

تجدون في التالي نصّ العظة الأسبوعيّة لقداسة بابا الإسكندريّة وبطريرك الكرازة المرقسيّة البابا تواضروس الثاني، يوم الأربعاء 15 أيلول/ سبتمبر 2021:


بإسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد. آمين
تحلّ علينا نعمته ورحمته من الآن وإلى الأبد. آمين

كنّا بدأنا في الأسبوعين الماضيين تأملات في مزمور ٣٧ وقلنا أن هذا المزمور هو أحد مزامير الحكمة، وسنحاول خلال تأملاتنا من الأسابيع الماضية والأسابيع القادمة إذا أراد ربنا وعشنا أن نأخذ مجموعة من الدروس من الحكمة أو دروس في الحكمة، وقلنا أن هذا المزمور يتماثل كثيرًا مع سفر الأمثال، وفي الأسبوعين الماضيين أخذنا درسين، أول درس في الحكمة: لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَارِ، وشرحناه وتأملنا فيه، ودرس الأسبوع الماضي: اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ وَافْعَلِ الْخَيْرَ، فَضَع في حسبانك أن يكون اتكالك هو على اللّه طوال طريق حياتك واِعمل الخير، وهذه هي مسئولياتك أنت، وهذا هو الدرس الثاني من دروس الحكمة، وطبعًا الشكل الأخير لدروس الحكمة يتكامل مع نهاية المزمور، ويُقدم لنا صورة أنك تحاول أن تتعلم الحكمة من خلال هذه المبادئ أو هذه الدروس.


اليوم سنأخذ الدرس الثالث، وهو تحت عنوان "اسْكُنِ الأَرْضَ"، وكما تعوّدنا سأقرأ الفقرة الأولى من هذا المزمور من عدد ١ إلى عدد ١١:
"لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَارِ، وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ الإِثْمِ، فَإِنَّهُمْ مِثْلَ الْحَشِيشِ سَرِيعًا يُقْطَعُونَ، وَمِثْلَ الْعُشْبِ الأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ. اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ وَافْعَلِ الْخَيْرَ. اسْكُنِ الأَرْضَ وَارْعَ الأَمَانَةَ. وَتَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ. سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي، وَيُخْرِجُ مِثْلَ النُّورِ بِرَّكَ، وَحَقَّكَ مِثْلَ الظَّهِيرَةِ (يقصد عز النور وعز الظهر) . انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ، وَلاَ تَغَرْ مِنَ الَّذِي يَنْجَحُ فِي طَرِيقِهِ، مِنَ الرَّجُلِ الْمُجْرِي مَكَايِدَ. كُفَّ عَنِ الْغَضَبِ، وَاتْرُكِ السَّخَطَ، وَلاَ تَغَرْ لِفِعْلِ الشَّرِّ، لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَكُونُ الشِّرِّيرُ. تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلاَ يَكُونُ. أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَة". نعمة اللّه الآب تكون مع جميعنا. آمين.


وأنا أتأمل معك في الدرس الثالث من دروس الحكمة وكما سمعناه "اسْكُنِ الأَرْضَ"، انتبه لهذه النقطة الهامة التي يجب أن نضعها أمامنا أن الدرس الأول "لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَارِ" يتكرر في هذه الفقرة ٣ مرات، لأن هذا مدخل للحكمة، فإيّاك أفعال الشرير أو أشكال الشرير أو مكايد الشرير أو ما يصنعه الشرير حتى لو كان منظره صحيح إياك أن تغير منه، لأنه كما قال الكتاب هنا " مِثْلَ الْحَشِيشِ سَرِيعًا يُقْطَعُونَ" ومصيره إلى الزوال، فلا تغر أبدًا، واِعرف المبدأ الرئيسي الذي بنينا عليه دروس الحكمة أن الأشرار مثل حشيش الأرض ندوس عليه، أما الذين يسيرون في طريق الرب "اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو، كَالأَرْزِ فِي لُبْنَانَ يَنْمُو" الشجرة العالية المورقة، فَضَعْ أمامك دائمًا هذا التشبيه، أن الحشيش الذي نسير عليه هو مثل الأشرار والأشجار العالية هي حياة الأبرار، ومن حياة الأبرار في الدرس الثالث "اسْكُنِ الأَرْضَ" وكلمة اسكن جاءت من السكن أو السكان، وهنا اسكن تعني عمّر، ولكنني أريد أن أسير معك في رحلة معنى الأرض، وسأكلمك عن الأرض: اللّه والأرض، ثم الشيطان والأرض، ثم الإنسان والأرض، لأن فكرة الأرض هذه من الموضوعات الكبيرة جدًا في الكتاب المقدس.


كما نعرف أننا سكّان الكرة الأرضية، وكما نعرف أن (اللّه والأرض) أن اللّه عندما خلق الأرض وفصل بين الأرض والمياه وبين الظلمة والنور وبدأت الأرض تأخذ تكوينها الجغرافي، وخلق الإنسان في اليوم السادس وقال عنه حسنٌ جدًا، وعندما كان يخلق كل يوم خلقة جديدة يقول حسن جدًا، وامتدت للحيوانات والنباتات وأسماك البحار والطيور و.... وفي النهاية وعلى قمة الخليقة كان الإنسان آدم ثم حواء، واكتملت الأرض وقال هكذا وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ وكان يومًا حسنًا جدًا في الخلقة، وصار الإنسان هو الكائن العاقل الذي أمره اللّه أن يُعمّر الأرض ويسكن الأرض، ودائمًا الآباء يشبّهونها بتشبيه جميل جدًا (بعد أن أوجد اللّه الخالق هذه المملكة العظيمة – مملكة الخلقة – خلق الملك الإنسان والمقصود به الرجل والمرأة)، وبدأ يسكن ويعمّر، ولكن للأسف تأتي قصة السقوط في الخطية، وباختصار قصة السقوط بمعنى أنني أفضّل إرادتي عن إرادتك وأحاول أن أوجد سبب لحياتي ليس أنت يا اللّه بل الطعام، وهذه هي فلسفة وجود أصوام في حياتنا أننا نحاول أن نرجع للصورة الفردوسية الأولى، لأنهم كانوا يأكلون أطعمة نباتية في الفردوس، ولهذا نحن في أصوامنا يكون الطعام النباتي هو الطعام الأساسي، وفي نفس الوقت أقول له يا رب حياتي ليست من الطعام ولا من ثمرة حلوة وشكلها شهي للأكل بل منك أنت يا رب.

ولهذا يكون عندنا فترات انقطاع، فترات انقطاع وبعدها نتناول الأطعمة النباتية، وعندما وقع آدم وحواء في الخطية أو المخالفة أو كسر الوصية وكسروا قلب ربنا فكانت النتيجة أن "مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ"، فصارت هناك لعنة في الأرض وبدأ بها الفساد والأوبئة، وانتبه أن في بداية الخليقة كانت كل الحيوانات تعيش في Harmony انسجام ومتوافقين جميعًا، ولا يوجد افتراس أو أمراض أو.... ولكن مع الخطية وأن صارت الأرض ملعونة ظهرت الأمراض والأوبئة والفيضانات والزلازل والحروب والأمور التي تعيش فيها الأرض الآن، وبعد أن كان آدم وحواء يأكلان بكل سهولة وبساطة يقول هكذا: يأكل بتعبه وبمجهوده وعمله في الأرض حتى تُخرج له الطعام الذي يأكله هو وأبناؤه، واستمرت الأرض هكذا حتّى نسمع في قصة دعوة إبراهيم أبو الآباء، ويقول هكذا له الرب في سفر التكوين إصحاح ١٢ "اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ".

والأرض التي كان يعيش بها إبراهيم وعشيرته هي أرض أور الكلدانيين، وأور تعني مدينة، والكلدانيين تعني شاطئ العرب في العراق، ويقول له اذهب من أرضك برغم أنها كانت فيها زرع وخير ولكنه قال له يمشي ويمر بصحارى كثيرة إلى أن يصل للأرض التي قال له عنها "فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ"، وهنا بدأت فكرة الأرض تظهر وأيضًا تعميرها، والحقيقة أن بمتابعة قصة بني إسرائل في العهد القديم كله تجد أن محور القصة هو الأرض كموضوع أساسي، ثم نسمع عن سفر يشوع – وأنا أكلمك الآن عن اللّه والأرض بداية من بدء الخليقة واستمرارًا في قصص العهد القديم – يأتي موسى ثم يشوع تلميذه الذي يبدأ بتقسيم الأرض ويتكلم عن الأرض في سفر يشوع بصورة واضحة جدًا وتوزيعها وتقسيمها على الأسباط، وتظهر قصص صغيرة في العهد القديم تعطيك مفهوم الأرض، وسأعطيك قصة هامة وكلنا تعلمناها في مدارس الأحد وهي قصة نابوت اليزرعيلي...

نابوت رجل مسكين وفلاح وعنده قطعة أرض صغيرة جدًا، وهذه الأرض الصغيرة تستولى عليها الملكة الشريرة إيزابل وتغتصب هذا الحق، ويقول نابوت لأخاب الملك هكذا "حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أُعْطِيَكَ مِيرَاثَ آبَائِي" هذه أرضي، وتمشي الصورة هكذا في كل العهد القديم ونلاحظ أن الأرض صارت هي مركز الصراع ومركز النزاع في كل أحداث بني إسرائيل، وليس نزاع شعوب فقط ولكن أيضًا نزاع الأفراد، فيظهر الطمع ويظهر الاستغلال ويظهر انتزاع الأرض ويظهر تشتت الشعب، وتمشي الأمور كلها إلى أن نصل في زمن السيد المسيح إلى دمار الهيكل، والهيكل كان يُمثل أهم نقطة جغرافية في الأرض، فدمار هيكل سليمان أو خراب أورشليم في سنة ٧٠ م بعد ميلاد السيد المسيح في القرن الأول الميلاد.

وعندما وقعوا بني إسرائيل والأسباط في خطايا كثيرة وسمّاهم الكتاب غليظ الرقبة (معاند) فعاقبهم اللّه بإبعادهم عن الأرض، وتأتي مرحلة السبي بمعنى أخذ الأرض بالناس الموجودة فيها، فنسمع عن السبي البابلي والسبي الأشوري وكل هذا في التاريخ وله طريق طويل جدًا، ولكن أريدك أن تعرف أن مع المسيحية اِنتَفت فكرة الجغرافيا، بمعنى أننا عندما نقول الآية المركزية في العهد الجديد "هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ" أي أنه لم يعد يوجد قطعة أرض خاصة جغرافية لها مكانة أو قداسة أكثر من كل الأرض، ولهذا يقولون المسيحية لا تعرف الجغرافيا، فالمكان الذي تقف لتصلي فيه هو مكان مقدس جدًا....

فعندما انتشر وباء الكورونا بدأ الناس يلتزمون البيوت حسب التعليمات الصحية وأصبحت الكنائس مغلقة فتحوّلت البيوت إلى كنائس، وعند إقامة أي إكليل نقول للرجل والمرأة أنكم تصنعون كنيسة جديدة ليسكن فيها المسيح، ففكرة الجغرافيا وفكرة أن مكان معيّن له قداسة أكثر من أي مكان آخر لم تعد موجودة واِعرفها دائمًا عندما نقول هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ كله فلا يوجد نقطة تختلف عن نقطة أخرى، وبالتالي فكرة الأرض لم تعد موجودة في المسيحية ولم تعد حاضرة بعكس العهد القديم، ولهذا المسيح يُقدّس أي مكان يحل فيه والكناس المسيحية موجودة في كل مكان في العالم، وكل هذا موجود إلى أن يأتي يوم الرب، "يَوْمُ الرَّبِّ، الَّذِي فِيهِ تَزُولُ السَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ الْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ الأَرْضُ وَالْمَصْنُوعَاتُ الَّتِي فِيهَا" وهو يوم الدينونة ويوم المجيء الثاني لربنا يسوع المسيح، وهذه هي فكرة الأرض واللّه...

ومن جانب آخر، الشيطان والأرض، والحقيقة أن الشيطان جعل الأرض ساحته وساحة الصراع، وحوّل الأرض لأماكن للحروب والأطماع والمجازر والأحقاد، وصارت الأرض تتغطّى بالدم وتتدنس بالظلم، وصارت الأرض التي هي نعمة أعطاها اللّه للإنسان كما قال الكتاب "وَالْعَالَمَ كُلَّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ"، وصار عدو الخير يصنع ويجول وسط البشر لكي يُسقطهم بأي صورة، وطبعًا لنا تجارب السيد المسيح، الـ ٣ تجارب في البرية، وفي سفر أيوب وكانت تجربة كبيرة من الشيطان يسأل الرب الشيطان "«مِنَ أَيْنَ جِئْتَ؟». فَأَجَابَ الشَّيْطَانُ الرَّبَّ وَقَالَ: «مِنْ الْجَوَلاَنِ فِي الأَرْضِ، وَمِنَ التَّمَشِّي فِيهَا»"، يعني دور عدو الخير أن يمشي في الأرض ليُسقط الإنسان بفكره وبأفعاله وبأقواله وبتصرفاته بالرذائل التي يسكبها فيه، والإنسان يستسلم ويصير أداة في يد الشيطان، خُذ حذرك، فعندما نقول في صلاة الشكر" كل حسد وكل تجربة وكل فعل الشيطان ومؤامرة الناس الأشرار - الذين سمحوا لعقلهم أن يحتلّه الشيطان وأفكاره – وقيام الأعداء الخفيين والظاهرين انزعها عنا وعن سائر شعبك" ثم نرشم الصليب وقتها، وصارت الأرض بما فيها وعليها نسمع عن حروب في العالم على الأرض كما رأينا مثلاً الحرب في أفغانستان من أمريكا لمدة ٢٠ سنة ولم يحققوا شيء، صراع كان فيه تدمير وخراب عظيم، وينسى الإنسان حياة الفضيلة التي خُلق من أجلها بل ينسى إنسانيته.

وهذا ما يصنعه عدو الخير في البشر اليوم، وأحيانًا يشعر الإنسان في حياته أنه يتملك الأرض بالرغم أنه في نهاية الحياة يُدفن في متر في مترين وتنتهي حياته ويصير من تراب الأرض، وإذا لاحظتم التراب في الطريق فَمِن أين يأتي؟! كان في الأصل أناس يعيشون ولهم صوت ولهم نزاعات ويتخاصمون أو يصنعون الخير ثم انتهت حياتهم إلى هذا التراب، ففي سفر حزقيال يقول "هأَنَذَا عَلَيْكَ يَا فِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ، التِّمْسَاحُ الْكَبِيرُ الرَّابِضُ فِي وَسْطِ أَنْهَارِهِ، الَّذِي قَالَ: نَهْرِي لِي، وَأَنَا عَمِلْتُهُ لِنَفْسِي"، أي يصل التكبر أو الكبرياء أنه يدّعي ملكية النهر أيضًا!! ومَنْ يستطيع أن يدّعي ملكية نهر الذي هو من عمل اللّه في الطبيعة....

الخلاصة، أن عدو الخير نجح أن يحوّل الأرض إلى شكل من أشكال النزاع، فنجد أن تكدست الأسلحة في أماكن كثيرة، وناس كثيرة تحت حد الفقر بالملايين في بلاد كثيرة بالرغم من أن خير ربنا يُغطي احتياجات الناس كلها، وصار في الحياة الأرضية الغني يزداد غنىً والفقير يزداد فقرًا، ونسمع عن جهود التنمية والجهود العظيمة التي تقوم بها الدول والأمم المتحدة والتنمية المستدامة، ولكن ما زال عدو الخير يحارب الإنسان بالطمع والاستغلال ويحاربه بالصدام ويحاربه بثروات الأرض لتكون محل صراع سواء بين الأفراد أو بين الشعوب وبين الأمم ونسمع عن حروب تظل وقتًا طويلاً جدًا بين الناس، الشيطان في الأرض...


قلت لك، اللّه والأرض، والشيطان والأرض، ويتبقى الإنسان والأرض، فعندما أراد اللّه خلق الإنسان أخذ ترابًا من الأرض "وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً"، ومن عملية الخلق فالإنسان ليس جسد فقط بل جسد وروح، والروح نسمة اللّه ونفخة الحياة التي أعطاها اللّه للإنسان فجعله كائن عاقل وناضج، ولهذا البشر لهم حضارة وصنعوا حضارات، فتذكّر الوصية هنا "اسْكُنِ الأَرْضَ" - ولكي تفهم معي هنا درس الحكمة – تعني كُن إيجابي ناحية الأرض، وسأشرحها لكم الآن بتفاصيل أكثر، ولكن عندما خلق اللّه الإنسان وصارت مكونات الإنسان الروح والنفس والعقل والجسد والصحة بصفة عامة أصبح الإنسان متصل باللّه من خلال نسمة الحياة، ولهذا الإنسان هو كائن سماوي مرتبط بالسماء، ويمشي بأقدامه على الأرض بالجسد ولكن فكره يستطيع أن ينطلق إلى السماء، ومن هنا ظهرت حياة الوصية التي يعيشها الإنسان من أجل أن يصير كائنًا منتمي إلى اللّه الذي خلقه، وبدأ الإنسان بهذه الصورة في حالة نزاع داخلي بين أن يعيش في السماويات والعلويات أم يعيش في التراب والأرض والجسديات، ولهذا الإنسان الذي يعيش في الأرض نسميه إنسان أرضي ومرتبط بالأرض.

وماذا عن السماء؟! فالحيوانات ليس لها سماء لأن ليس فيها نسمة حياة من اللّه، وماذا عنك أيها الإنسان؟ فأنت وضع اللّه من روحه فيك نسمة حياة، وعندما ينتقل الإنسان نقول خرجت روحه إلى بارئها، فمن فضلك لا تكون كائن أرضي فقط، وهناك من يحب الأرضيات ويهتم بالأكل والشرب كما قالت الفلسفة اليونانية القديمة لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت، ويقول القديس بولس الرسول عن هذه النوعية من الناس "الَّذِينَ إِلهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ" في رسالة فيلبي، ويوجد ناس تفتخر بالملكيات والمقتنيات والعقارات وبرغم حاجته ليست لمثل هذا القدر، أريد أن أقول لك أن تعاملك مع الأرضيات يجب أن يكون معتدل، مثال في سكنى الأرض أن تعيش في بيت حلو - وفي هذا الوقت مصر تقوم بمشروع تنموي ضخم وهو حياة كريمة وهو أن تكون الكرامة لكل الناس وبالذات الموجودين بالقرى والأرياف، ولكن كما نعيش في الأرضيات يجب أن يكون فكرنا في السماويات لأنه لا يليق أن يكون فكرك كله في الأرض بل أن يكون فكرك أيضًا في السماء لأنك مكوّن من الجسد والروح.... كما قال أحد الآباء، أنه لأمر مستحق الأسف والبكاء هو أن الإنسان يُقيت جسده كل يوم ويترك نفسه أسابيع تضوّر جوعًا .. يكسو جسده بالملابس ويدع نفسه عريانة من الفضائل .. يُنظف جسده.. لا بل ثوبه من الأوساخ ونفسه تمتلئ بقاذورات المآثم والشرور وكأنها نفس عدو أو كأنه بلا نفس .. يُعد لجسده منزلاً مزيّنًا ومنزل نفسه هو جهنم، لذلك حكمة الإنسان دائمًا في اعتداله، "اسْكُنِ الأَرْضَ" كُن إيجابيّا نحو الأرض، وعندما تشغلنا الأفكار الأرضية بأنواع كثيرة يأتي السؤال المهم...


ما معنى أن يسكن الإنسان الأرض؟
سأشرحها لك بالمفهوم الكتابي والروحي، أولاً أن تسكن الأرض ولكن يلازمك شعور الغربة، وهذا كلام داود النبي "غَرِيبٌ أَنَا فِي الأَرْضِ. لاَ تُخْفِ عَنِّي وَصَايَاكَ"، فأنا موجود في الأرض لفترة ولكن لا تجعل وصاياك تبتعد عني لأني أريد أن أعيش بالوصية لأصير عندك باستمرار، وكذلك من تاريخ الآباء في العهد القديم أن الآباء سكنوا في خيم لأن الخيمة بناء مؤقت وفيها ترحال من مكان لمكان لمكان، ويقول القديس بولس الرسول "إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ (يقصد الجسد)، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللّهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ" وهنا المعنى جميل جدًا، حتى الجسد الذي نلبسه كأنه خيمة نعيش بها فترة وتنتهي، ويقول بطرس الرسول في رسالته الأولى في إصحاح 2 "أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ، أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ".

وهذه وصايا يا إخوتي نضعها أمامنا، وتعبير بطرس الرسول أطلب إليكم كغرباء وهي (شعور الغربة) ونزلاء كمَنْ ينزل في فندق يومين أو ثلاثة فقط، أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس فخُذ حذرك، ومن التداريب النسكية الجميلة يوجد كتاب روحي اسمه "سائح روسي على دروب الرب" وهو من أحد الكتب النسكية الروحية، وسائح تعني إنسان عاش في شعور الغربة وليس له مسكن فأصبح يسير في دروب الرب من الحياة الروحية وسط الآباء الرهبان ووسط النساك وهذا الكتاب يُسجل المشاهد التي يصادفها في هذا الطريق، وأثناء الشعور بالغربة ستجد أمور كثيرة أصبحت لا قيمة لها أمامك، ثانيًا أن تسكن الأرض بأن تعيش وتصنع مجتمع السلام، ويُعجبني التعبير في التطويبات عندما يقول "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ (يصنعون السلام في الأرض)، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللّهِ يُدْعَوْنَ" أي أن هؤلاء لهم مكان ونصيب في السماء، فاِصنع سلام على المستوى الصغير والمستوى الكبير ، فكُن كما التعبير الدارج (حمامة سلام) باستمرار، "عِيشُوا بِالسَّلاَمِ" وهذه وصية كتابية، وكما يقول سفر الأمثال "لُقْمَةٌ يَابِسَةٌ وَمَعَهَا سَلاَمَةٌ، خَيْرٌ مِنْ بَيْتٍ مَلآنٍ ذَبَائِحَ مَعَ خِصَامٍ" ويعني أن لقمة يابسة ومعها سلام أفضل بمراحل من أي صورة أخرى، وكذلك عندما اِختلف عبيد إبراهيم مع عبيد لوط ابن أخيه واختلفوا على الأرض يقول لنا الكتاب "وَلَمْ تَحْتَمِلْهُمَا الأَرْضُ أَنْ يَسْكُنَا مَعًا (حدث نزاع)،.... فَحَدَثَتْ مُخَاصَمَةٌ بَيْنَ رُعَاةِ مَوَاشِي أَبْرَامَ وَرُعَاةِ مَوَاشِي لُوطٍ"، فكانوا يتنازعون على الأرض من أيام إبراهيم ولوط، وعند التأمل في عبارة لم تحتملهما الأرض نجد أن الأرض ليست ملك لأحدهم كما أن كلاهما سيتركان الأرض يومًا ما فلماذا النزاع؟ أين العقل؟ أين الحكمة؟ …

هذه العظة نُشرت على صفحة المتحدّث الرسمي بإسم الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

إطلاق الموقع الإلكترونيّ مركز يوحنّا المعمدان للتعليم المسيحي

Next
Next

غبطة البطريرك ساكو يحتفل بقدّاس عيد الصّليب ورسامة سبعة شمامسة وشمّاسات في بغداد