عظة غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي الأحد السّابع من زمن العنصرة
الديمان – الأحد 4 تمّوز/ يوليو 2021
"الحصاد كثير والفعلة قليلون" (لو 10: 2)
1. الكنيسة، برعاتها وجماعة المؤمنين والمؤمنات بالمسيح، مرسلة إلى العالم، وهي في حالة إرسال دائم لتعلن سرّ يسوع المسيح، بحيث يتمكّن كلّ إنسان من معرفته، واللقاء به لقاء شخصيًّا وجدانيًّا. وهي بالتالي رسالة سلام، فالمسيح "أمير السلام" بحسب أشعيا النبيّ، و"المسيح سلامنا" بحسب بولس الرسول (أفسس 2: 14)، وبمعرفته "ننال السلام" بحسب بطرس هامة الرسل (2 بطرس 1: 2).
وإذ تنفتح أمام الكنيسة مساحات واسعة في العالم من مثل: الحياة الإجتماعيّة،والتربية والإقتصاد، والسياسة، والإدارة، وعالم القضاء، والإعلام وتقنيّاته، قال الربّ يسوع لهؤلاء الذين يرسلهم من جيل إلى جيل: "الحصاد كثير والفعلة قليلون. فاطلبوا من ربّ الحصاد أن يرسل فعلةً إلى حصاده" (لو 10: 2). أجل، نحن نصلّي اليوم من أجل إرسال مثل هؤلاء الفعلة أساقفة، وكهنة ورهبانًا وراهبات ومؤمنين ومؤمنات ملتزمين، فيعملوا على متابعة الرسالة، حاملين إنجيل الملكوت إلى هذه المساحات، فتنطبع بثقافة الإنجيل.
2. يسعدني أن نلتقي معًا ونحتفل بهذه الليتورجيا الإلهيّة، بعد العودة من روما حيث مع أصحاب الغبطة البطاركة والسادة الأساقفة، رؤساء الكنائس في لبنان، شاركنا قداسة البابا فرنسيس في "يوم التفكير بشأن لبنان، والصلاة من أجل السلام فيه". نشكر الله في هذه الذبيحة الإلهيّة على ذاك اليوم الغنيّ بالخير والنعم، ونصلّي كي يحقّق الله أمنيات قداسته بشأن لبنان، وكي يمكّننا من تحقيق برنامج العمل الذي رسمه لنا في كلمته التي ختم بها الصلاة المسكونيّة في بازيليك القدّيس بطرس، وشارك فيها العالم عبر الوسائل الإعلاميّة ووسائل التواصل الاجتماعي.
3. إنجيل اليوم يذكّر المسيحيّين بأنّهم يشاركون، بحكم معموديّتهم والميرون، في وظيفة يسوع المسيح المثلّثة: النبويّة والكهنوتيّة والملوكيّة. الوظيفة النبويّة توجب عليهم معرفة المسيح والانجيل وتعليم الكنيسة، واتخاذ مواقف إيمانيّة، وطبع الشؤون الزمنيّة بالقيم الروحيّة والخلقيّة. والوظيفة الكهنوتيّة تحملهم على المشاركة في سرّ القربان والأعمال الليتوجيّة المقدّسة، وعلى الصلاة والعبادة، فيجعلون من أعمالهم وتضحياتهم وأفراحهم وأحزانهم قرابين روحيّة، يضمّونها إلى قربان المسيح في قدّاس الأحد. والوظيفة الملوكيّة تفتح قلوبهم لمحبّة المسيح المسكوبة بالروح القدس من أجل انتصار النعمة على الخطيئة، والخير على الشرّ، ويعملون جاهدين على محاربة الظلم والعداوة والنزاعات بإحلال العدالة والأخوّة والسلام.
4 الصلاة التي يدعونا إليها المسيح لإلتماس الفعلة لحصاده، تجد صداها في صلاتنا مع قداسة البابا في الڤاتيكان، الخميس الماضي. الصلاة أساس أيٍّ حلٍّ لأنَّ لبنانَ هو أصلًا مشروعُ لقاءٍ مع الله، ومأساتَه الحاليّةَ تَعصَى على الحلولِ العاديّة. حين كان البابا فرنسيس يَتكلّم، شَعَرنا أنَّ حلَّ القضيّةِ اللبنانيّةَ في عمق قلبه، وأن قوّةً من الأعالي دخلت علينا لتشفيَ بلدَنا. فالصلاةُ ليست طريقَ الإنسانِ إلى الله فقط، بل هي طريقُه إلى الآخَر. ومتى حَصَل اللقاءُ بالآخَر يكون الحلُّ.
فتَعالَوْا، أيها اللبنانيّون نلتقي من جديد، ونرمي جميعَ خِلافاتِنا العبثيّةِ وراءَنا، ونَمشي في النورِ نحوَ المستقبل؛ وسيكون لنا مستقبلٌ عظيمٌ. لقد دعانا البابا فرنسيس إلى الإيمانَ والرجاءَ والمحبّةَ والندامةَ والغفران. نحن، نَفتقِدُ هذه القيمَ الروحيّةَ والإنسانيّةَ مثلما نَفتقِدُ الخبزَ والغذاءَ والدواء. لأنّ فيها نجدُ الحلَّ والخلاصَ، ونَجِدُ خبزَ الحياة.
كم كان قداستُه متأثّرًا ومؤثّرًا، وهو يقول: "يَدْفَعُنا القَلَقُ الشديد على لبنان، الذي أَحْمِلُهُ في قَلْبِي وأَرْغَبُ في زِيارَتِه، إذ أراه يُتْرَكُ رَهينَةَ الأقْدارِ أو رهينةَ الَّذينَ يَسْعَوْنَ بِدونِ رادِعِ ضَميرٍ وَراءَ مَصالِحِهِم الخاصَّة. لبنان بَلَدٌ صَغيرٌ كَبِير، وَهُوَ أكْثَرُ مِنْ ذَلِك: هُوَ رِسالَةٌ عالَمِيَّة، رِسالَةُ سَلامٍ وأُخُوَّةٍ تَرْتَفِعُ مِنَ الشَّرْقِ الأوْسَط".
5.أمّا نحن فكان كلّ لبنانيّ حاضِرًا معنا، في قلبنا وفي خاطرنا. ما نَطَقْنا بكلمةٍ ولا أدْلَينا برأيٍّ إلا وأخَذْنا بالاعتبارِ مصلحةَ جميعِ اللبنانيّين. لقد صار واضحًا أنَّ مسارَ حلِّ القضيّةِ اللبنانيّةِ، ومصيرَ "الوطنِ الرسالة"، يَـمرُّ حتمًا بلقاءِ اللبنانيّين على وِحدةِ دولةِ لبنان في ظلِّ الديمقراطيّةِ والتعدديّةِ واللامركزيّةِ والحِيادِ الإيجابي الناشط ووِحدةِ القرارِ الوطنيِّ والانتماءِ العربيِّ وتنفيذِ جميعِ القراراتِ الدُوليّة. وصار واضحًا مدى حاجةِ لبنان في ظلِّ هذا التمزّقِ والانهيارِ إلى مساعدةِ الأشقّاءِ والأصدقاءِ عبرَ مؤتمرٍ دُوليٍّ يُخرُج لبنانَ من أزمتِه المصيريّة.
6. لقد وجّه قداسة البابا فرنسيس نداءات بصيغة الواجب، بالتوالي:
إلى كلّ من بيده السلطة: أن يضع نَفْسَهُ نِهائِيًا وَبِشَكْلٍ قاطِعٍ في خِدْمَةِ السَّلام، لا في خِدْمَةِ مَصالِحِهِ الخاصَة. كَفَى أنْ يَبْحَثَ عَدَدٌ قَليلٌ مِنَ الناسِ عَنْ مَنْفَعَةٍ أنانِيَّة علَى حِسابِ الكَثيرين! كَفَى أنْ تُسَيْطِرَ أَنْصافُ الحَقائِقِ علَى آمالِ الناس!". كَفَى اسْتِخْدامُ لبنانَ والشَّرْقِ الأوْسَط لِمَصالِحَ وَمَكاسِبَ خارجِيَّة! يَجِبُ إعْطاءُ اللبنانِيِّينَ الفُرْصَةَ لِيَكُونوا بُناةَ مُسْتَقْبَلٍ أفْضَل، علَى أرْضِهِم وَبِدونِ تَدَخُّلاتٍ لا تَجُوز.ودعا القادة السياسيّين لإيجاد حلول عاجلة ومستقرّة للأزمة الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسيّة الحاليّة.
وإلى اللبنانيّين:
لقَدْ تَمَيَّزْتُم علَى مَرِّ القُرُون، حَتَى في أَصْعَبِ اللحَظات، بِرُوحِ المُبادَراتِ والاجْتِهاد. أَرْزُكُم العالي، رَمْزُ بَلَدِكُم، يُذَكِّرُ بِغَنَى وازْدِهارِ تارِيخِكُم الفَريد. ويُذَكِّرُ أيْضًا أنَّ أغْصانَه العاليَّة تَنْطَلِقُ مِنْ جُذُورٍ عَميقَة. تَأَصَّلُوا في جذور أَجدادِكُم، وأَحلامِ السَّلام. فلا تَيْأَسُوا، وَلا تَفْقِدُوا رُوحَكُم، ابْحَثُوا في جُذورِ تاريخِكُم عَنِ الرَّجاء، لِتُزْهِروا وَتَزْدَهِرُوا مِنْ جَدِيد.
وإلى المسيحيّين: معكم، نريد اليوم أنْ نُجِدَّدَ التِزامَنا بِبِناءِ مُسْتَقْبَلٍ مَعًا، لأنَّ المُسْتَقْبَلَ سَيَكُونُ سِلْمِيًّا فَقَطْ إذا كان مُشْتَرَكًا. لا يُمْكِنُ أنْ تَقُومَ العَلاقَاتُ بَيْنَ الناسِ علَى السَّعي وَراءَ المَصالِحِ والامْتِيازاتِ والمَكاسِبِ الخاصَة لِلبَعض. لا، إنَّ الرُؤيَّةَ المَسِيحِيَّة لِلمُجْتَمَعِ تَحْمِلُ علَى الاقْتِداءِ بِعَمَلِ اللهِ في العالَم. فَهُوَ أبٌ وَيُريدُ الوِئامَ بَيْنَ الأبْناء. نَحْنُ المَسِيحيِّين مَدْعُوونَ لأن نَكون زارِعِي سَلامٍ وَصانِعي أُخُوَّة، وأَلَّا نَعِيشَ علَى أحقادِ الماضي والتَحَسُّر، وأَلَّا نَهْرُبَ مِنْ مَسؤُولياتِ الحاضِر، وأَنْ نُنَمِيَ نَظْرَةَ رَجاءٍ في المُسْتَقْبَل. نَحْنُ نُؤْمِنُ أنَّ اللهَ يَدُلُنا علَى طريقٍ واحدٍ فَقَط في مَسيرَتِنا: هُوَ طَريقُ السَّلام …
هذه العظة نُشرت على موقع البطريركيّة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، لقراءة المزيد اضغط هنا.