عظة قداسة البابا تواضروس الثاني بقدّاس تدشين كنيسة القدّيسين في الإسكندريّة
باسم الآب والابن، الروح القدس، الإله الواحد. آمين. تحل علينا نعمته ورحمته من الآن وإلى الأبد. آمين.
إخرستوس آنيستي.. آليثوس آنيستي
المسيح قام.. بالحقيقة قام
نفرح في هذا الصباح المبارك ونحن في هذه الكنيسة المقدسة كنيسة القديسين بالإسكندرية، نفرح بتدشين مذابحها، نفرح الآباء الأساقفة الأحباء، والآباء الكهنة، والآباء خدام هذه الكنيسة المقدسة، وكل الحضور، الشمامسة وكل الأراخنة وكل الحضور.
نفرح في هذا اليوم يا إخوتي الأحباء في هذه الكنيسة الشاهدة للمسيح، والكنيسة القبطية عبر عصورها تشهد للمسيح وتشهد بقوة.
كنيستنا القبطية في التاريخ كنيسة قوية وكنيسة غالية، وغلاوتها وقوتها من وجود عمل الله الدائم فيها، وأيضًا غلاوتها وقوتها من وجود من يخدمها، كل الآباء الأحباء في كل العصور، وعندما ندرس في تاريخ الكنائس وتاريخ الكنيسة بصفة عامة، الكنيسة المسيحية على مستوى العالم، تبدو وتظهر الكنيسة القبطية كواحدة من أقدم كنائس العالم، تباركت بالعائلة المقدسة وتباركت بنبوة العهد القديم، وتباركت أيضًا بكرازة القديس مار مرقس الرسول، وعاشت الكنيسة عبر عصورها مهما اختلفت هذه العصور بكل ما فيها، ولكن عاشت دائمًا كنيسة قوية تعيش في الروحانية وتعيش في قوة عمل الله فيها بفضل كل أبنائها وشعبها كل الإكليروس وكل الصغار وكل الكبار فيه، وحين نسأل كيف تعيش الكنيسة القبطية في وسط العالم قوية وحية؟ الحقيقة في التاريخ الكنيسة القبطية عاشت على المستوى الفردي كل واحد فينا من أفراد الشعب وعلى المستوى الجماعي، نحن ككنيسة واحدة عاشت وهي تقدم ثلاثة أمور عبر التاريخ، وظلت تقدمها من سنة لسنة ومن جيل إلى جيل، ومن مرحلة إلى مرحلة، ولذلك الكنيسة حية وقوية وغالية وشاهدة للمسيح:
١- دموع الصلوات:
الصلوات المرفوعة الدائمة في الكنيسة هي سبب قوة، وهي لا تقدم الصلوات ككلمات ولا حتى ألحان ولا موسيقى، ولكن تقدم الصلوات كمشاعر من داخل القلب
وتقدمها مصحوبة دائما بالدموع، لأن الدموع هي أسمى ما تقدمه أو ما يقدمه الإنسان لأنها مشاعر القلب، ولذلك تحيا الكنيسة في صلواتهم الكثيرة والمتعددة والقصيرة والطويلة، ومن الصلوات التي نكررها كثيرًا هي "كيرياليسون"، والصلوات التي نعيشها كل يوم، المزامير في الأجبية والصلوات الطقسية على اختلاف أنواعها، والصلوات التي نرفعها في منازلنا وفي بيوتنا وفي حياتنا وفي أعمالنا كل هذه الصلوات سبب قوة الكنيسة، فهي كنيسة مصلية وقوة الصلوات هي أنها مصحوبة بالدموع، والدموع هنا عمل يبين أعماق أعماق قلب الإنسان.
نقرأ في الكتاب المقدس عن الذين صلوا بدموع مثل حنا أم صموئيل التي كانت من كثرة دموعها يظن الناس أنها سكرانة، الصلوات التي ترفع من قلوب نقية وقلوب تائبة هي صلوات تنفتح لها أبواب السماء وتجعل الإنسان وتجعل الكنيسة حية.
أظن أن معظمكم قرأ في التاريخ كيف أن الكنيسة تعرضت لمتاعب كثيرة جدا عبر عشرين قرن، وجيد أن نقف أمام التاريخ، ونقول كل ما حدث في تاريخ الكنيسة من متاعب، كانت الكنيسة لتضيع وتنتهي، ولكن بفضل الصلوات المرفوعة من كل قلب ليس فقط من الصلوات داخل الكنائس، لكن أيضًا الصلوات المرفوعة في منازلنا وفي وسط أسرنا، إنها صلوات قوية، تتذكرون معي صلوات الأم مونيكا عندما كانت تصلي من أجل ابنها الشارد وكيف ظلت تصلي لثماني عشرة سنة حتى يعود ابنها ويعود قويًّا وقد أصبح قديسًا في الكنيسة فهذا هو مفعول الصلوات، هي صاحبة القوة، وهي التي تمنح القوة للإنسان والإنسان من غير صلاة لا يستطيع أن يقدر أن يفعل شيئًا، هذه الصلوات وهذه الدموع أنشأت في تاريخ كنيستنا ما نسميه بالأديرة والرهبنة، والرهبان هم الذين تركوا الحياة في العالم لكي ما يتفرغوا من أجل الصلاة، حياتهم كلها صلاة، نهارهم وليلهم كله صلاة ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم أنه عندما زار مصر وزار برية وادي النطرون وسألوه ماذا رأيت في مصر؟ كان زمان الأديرة ليس لها أسوار بل قلالٍ ومنشوبيات متناثرة في البرية، ولم يكن هناك كهرباء، فكانت الشموع هي التي تستخدم للإضاءة، فتصور البرية المظلمة، ليس بها إنارة والقلالي المتناثرة كل قلاية فيها شمعة ساكن هذه القلاية يذاكر ويحفظ ويصلي ويقدم الدموع أمام الله، فسألوه عما رأى في مصر. فرد بإجابة جميلة جدا وقال "السماء بكل نجومها ليست في جمال برية مصر بكل نساكها الذين يرفعون الصلوات"، أول ما حافظ على الكنيسة وجعلها قوية وغالية وحية وفعالة هي الصلوات المرفوعة، ولذلك يا إخوتي الأحباء في كل لحظة تقدم صلاة من القلب اعرف أن هذه الصلاة تهز أبواب السماء، واعرف أن الصلاة تقتدر في فعلها، فطلبة البار تقتدر في فعلها كثيرًا، هذه أول حالة جعلت الكنيسة تعيش إلى اليوم وحتى مجيء المسيح في المجيء الثاني.
٢- الأمر الثاني الذي قدمته الكنيسة عبر عصورها على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي هو العرق المقصود به الجهاد الروحي.
إن كانت الدموع دموع الصلوات ومشاعر القلب، فالعرق هو عرق الجهاد الروحي، خاصة الجهاد الذي يحافظ على الإيمان المستقيم. كنيستنا مثلما نعرف اسمها الكنيسة "الأرثوذكسية" مستقيمة الرأي والفكر والعقيدة والسلوك.
وعاشت الكنيسة تجاهد وتحافظ وتحفظ هذا الإيمان المستقيم وأسماء قديسي هذه الكنيسة القديس مار مرقس الرسول مؤسس الكنيسة القبطية والقديس البابا بطرس خاتم الشهداء الذي هو رقم سبعة عشر هؤلاء حافظوا على الإيمان كما في كل مراحل الكنيسة، وكان هذا الحفاظ يحتاج جهادًا روحيًّا، وهذا الجهاد الروحي احتاج إلى العرق، التعب والجهد والخدمة والبذل والكرازة، وظلت الكنيسة تقدم هذا العرق، وهذا العرق يصير مثل حبات البخور، تصعد رائحة زكية أمام الله فيشتمها رائحة سرور، وظهر في الكنيسة عبر كل عصورها حفظ الإيمان، ليس في آبائها فقط، ولكن في كل بيت، كل بيت فينا يبدأ عندما يرسل الله لهم أطفالًا صغارًا يعلمونهم رشم الصليب و"أبانا الذي" و"فلنشكر صانع الخيرات"، ويعيش في الكنيسة ويسمع ألحان الكنيسة ويدخل الكنيسة ووالداه يعلمانه كيف يأخذ بركة الأيقونات، وبركة الستر، وتقبيل يد الكاهن فيعيش ويعيش، ونشعر أن حياتنا الكنسية طويلة، يعني بنكون داخل الكنيسة كتير، طبعا زمان كورونا الذي نحن فيه عامل أزمة شوية لكن مسيرها تنتهي، ويعيش الإنسان في جهاد آبائه الأصوام والصلوات والقراءات، وفي جهاد الخدمة، وفي الجهاد الروحي الشخصي وكيف يقدم توبة وكيف ينقي قلبه، وكيف يمارس الأسرار... أصبحت "حياة" هذه الحياة التي تحمل عنوان العرق والتعب، فالملكوت له ضريبة ليس سهلًا، بل إننا نُعَد في الكنيسة من أجله من خلال هذا البذل، وهكذا عندما ينظر الإنسان إلى السماء ويسعى في طريق الملكوت بهذه الصورة ويبذل التعب.. فالتعب ليس باطلا، إنه تعب مقدس في الرب، والهدف من أي عمل روحي صلاة أو خدمة أو دراسة... كل هذا كل تعب، لكن هذا التعب يشكل للإنسان إكليلًا في السماء ويجعل الإنسان يشعر بفرح أن هذا التعب الذي يقدمه مقدس أمام الله، التعب في التربية، وواحد من القديسين يقول "إكليل تربية إنسان يساوي إكليل نسك راهب"، يعني أن الجهد في تربية ابني يصير إنسانًا صالحًا للسماء فالإكليل الذي يأخذه الأب والأم يساوي إكليل الناسك في البرية، هو ده الجهاد الروحي الذي نفرح به كلنا نعيشه في حياتنا، وهو اللي حافظ على كنيستنا لغاية النهاردة وإلى المنتهى يجعل الكنيسة قوية.
إذًا أول حاجة قدمتها الكنيسة على المستوى الفردي أو الجماعي دموع الصلوات وأيضا الأمر الثاني قدمت الجهاد الروحي عرق الجهاد الروحي تعب
٣- الأمر الثالث أن الكنيسة في كل عصورها قدمت الدم. والدم هنا دم الشهداء الذي صار عنوان كنيستنا التي تسمى كنيسة الشهداء، وهي معروفة بهذا في وسط العالم كله أن كنيسة مصر هي كنيسة الشهداء، وتعيش الكنيسة من خلال حياة الآباء القديسين الشهداء في كل العصور وفي كل الأشكال وفي كل المستويات ونعيش في تاريخنا الكبير، الذي يمتد حتى أزمنتنا الحاضرة، ويكون لكنيستكم نصيب فيه ونفتخر كلنا بهذا لأن دم الشهداء لا يذهب باطلًا أبدًا، دم الشهداء هو الوقود الذي حافظ على كنيستنا عبر كل العصور في كل الأزمنة، وكأن الكنيسة، الدموع مع العرق مع دماء الشهداء تشكل خيطًا مثلوثًا لا ينقطع سريعًا. وهو ده اللي يخلي كنيستنا لامعة في وسط العالم كله وخلي كنيستنا الكل يشهد لك الكنيسة القبطية بأبنائها وشهدائها بتاريخها بتراثها حاجة نادرة في الزمان، عاشت الكنيسة وفي أزمنة الحاضرة قدمت أيضًا شهداءًا ويظل كتاب السنكسار الذي يسجل أحداث الكنيسة مفتوحًا ويذكر فيه أحداثًا كثيرة، ويصير كل شهيد وكل دم شهيد هو بالحقيقة سبب بركة للكنيسة وسبب بركة للأسرة، وسبب فخر كل مصر أن الكنيسة المصرية التي تخدم بالروح وبالحق تقدم أيضا شهداء، ويكون هؤلاء الشهداء بمثابة كنوز وعطايا نقدمها باسمنا كلنا أمام الله، هذه هي كنيستنا، وهذه هي العظمة التي نحن نعيشها كل يوم ونفتخر بها ونفتخر فحياتنا إذًا أمامنا هذه المجالات الثلاثة مجال الدموع ومجال العرق ومجال الدم، وهذا الذي يجعل الكنيسة كنيسة قوية وكنيسة غالية …
هذه العظة نُشرت على صفحة المتحدّث الرسمي بإسم الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد اضغط هنا.