الصوم في الكنيسة اللّاتينيّة، تقليد مقدّس وممارسة متنوّعة بقلم الأب فراس عبدربه

dsc-4087-1613636902.jpg

بقلم: الأب فراس عبدربه

مقدّمة

الصوم هو تقليد من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، لكنه أيضاً ممارسة تطورت وتنوعت بحسب الزمان والمكان. لن اتطرق بشكل مفصل إلى الصوم من ناحية الكتاب المقدس، ولا إلى روحانيته ومعانيه، لأن الهدف من هذا العرض المقتضب هو القاء نظرة شاملة ومختصرة على "أساليب الصوم وتطورها عبر التاريخ" من اليهودية إلى المسيحية الأولى وحتى الكنيسة اللاتينية في زماننا المعاصر. وإذا ما تطرقنا إلى الكتاب المقدس فإنما فقط لتوضيح هذه الناحية.

أولاً: الصوم اليهودي (תַעֲנִית أو צום)

يبدو أن للصوم في اليهودية ثلاثة أهداف مختلفة هي:

١. التكفير عن الخطايا: كما في يومي الغفران وتيشع بآب.

٢. الحداد أو تذكر حادث أليم: كما في ذكرى دمار الهيكل

٣. الشكر: والتركيز على الجوهري كون الله هو مصدر الحياة والطعام، وبذلك يضحي الصوم اعترافاً باعتمادنا على الله وحاجتنا إليه أولاً.

اختلفت التفسيرات ضمن التلمود والمدراش في شأن "أشكال" الصوم اليهودي، لكننا نجد شبه اجماع على التالي:

١. الصوم الكامل: من الغروب حتى حلول ظلام اليوم التالي، بلا طعام ولا شراب (يوم كيبور و تيشع بآب).

٢. الصيام الصغير: من الشروق حتى الغروب (كما في بعض الأعياد المحددة).

* صوم يسوع: يرى البعض بأن يسوع قد صام عن الطعام فقط لا عن الماء، لقول الإنجيل بأنه جاع، بينما لم يقل بأنه قد عطش. بينما يرى بعض المفسرين بأن هذه القصة هي أسلوب أدبي فيه رمزية، فإنه يجب في جميع الأحوال تجنب التفسير الحرفي للنصوص.

ثانياً: تطور الصوم في المسيحية

منذ بداية المسيحية كان الصوم متنوعاً ومختلفاً من منطقة إلى أخرى بل وضمن المنطقة نفسها. حتى أن الباحثين في عصرنا يعتقدون بأن الصوم الأربعيني جاء تدريجياً، وأنه لم يكن ثابت المدة دائماً، إذ يستشهدون في ذلك برسالة ايرينيوس إلى البابا فكتور في القرن الثاني، المذكورة في كتاب التاريخ الكنسي لأوسيبيوس القيصري: "يعتقد البعض أن عليهم الصوم ليوم واحد، وغيرهم ليومين، بل وغيرهم لعدة أيام، بينما يحسِب آخرون أربعين ساعة، ليل نهار، لصيامهم". فلنتتبع الآن بعض أهم المصادر في تقليد الكنيسة:

١. الكتاب المقدس: في العهد القديم صام كل من موسى وايليا مدة ٤٠ يوماً. أما في العهد الجديد فقد صام يسوع مدة ٤٠ يوماً أيضاً. ويذكر سفر أعمال الرسل (٩: ٩) أن بولس مكث ثلاثة أيام "لا يأكل ولا يشرب" عقب ظهور يسوع له على طريق دمشق واِصابَتِه بالعمى.

٢. كتاب الديداخي أو تعليم الرسل الإثني عشر: كتاب من القرن الأول، يتطرق في الفصل الثامن منه إلى مسألة الصوم في نقطتين فقط:

أ) النهي عن الصوم مع المرائين (الفريسيين) يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع.

ب) أن يقام صوم كامل يومي الأربعاء والجمعة.

٣. راعي هيرماس (منتصف القرن الثاني): "اسمع. فإن الله لا يريد صومًا باطلًا كهذا الصوم؛ إن صمت هكذا فأنت لا تعمل شيئًا للبرّ. صُم للرب هكذا: لا تصنع الشر، واخدم بقلب نقي، واحفظ وصايا الله، وسر حسب أوامره، ولا تترك للشهوة الشرّيرة منفذًا إلى قلبك، وثق بالله، فإن فعلت هذا، وخشيت الله، تكون قد صمت صومًا عظيمًا مقبولًا لدى الله".

٤. الغنوصية: هرطقة ازدرت الجسد وكان مفهوم الصوم عندها مؤسساً على هذه النظرة السلبية للجسد.

٥. ترتليانس: تحدث كثيراً عن الصوم، وميز بالذات بين نوعين من الصوم ظهرا في الكنيسة الأولى: "أكل خبز وفواكه مجففة" (Xérophagie ) و صوم المحطات (Stations) الذي كان يتوقف عند ساعة الصلاة التاسعة (الثالثة عصراً) لا الغروب.

٦. آباء الصحراء: أشكال من الصوم تقارب الخرافة! مثل أكل سلة خبز واحدة على طول السنة، أو رماد البخور مع الخبز أو أعشاب الصحراء...إلخ.

٧. قانون القديس مبارك (بندكتوس): تطرق القديس بندكتوس إلى الصوم في الفصول التالية من قانونه الرهباني : ٣٩ – ٤١، ٤٩، ٥١ وعلى النحو التالي:

٣٩. في كمِّية المأكول

١. نعتقد أنَّ شكلين من الطعام المطبوخ يكفيان جميع الموائد للغذاء اليومي ، سواءً أَكلوا الساعة السادسة او الساعة التاسعة،

٢. بنوع أن مَنْ لا يستطيع الأكل مِنْ أحد الشكلَيْن، يتناول وجبته من الآخر.

٣. إذًا فليكفِ لجميع الإخوة شكلان من الطعام المطبوخ. وإنْ وُجِدَ ثمارٌ أو خُضَرٌ طريَّة، يُضاف أيضًا شكْلٌ ثالث.

٤. فليكْفِ في اليوم ما يعادل نصف الكيلو بوزنٍ راجح مِنَ الخبز، سواءً كان وجبةٌ واحدة أَوْ غداءٌ وعشاء.

٥. إن كان هناك عشاء، فليحتفظ القهرمان بثلث نصف الكيلو كَيْ يُعيدَه عند العشاء.

٦. يكون للأبّاتي الحكم والسلطة أنْ يزيدَ شيئًا إنْ رآه مناسبًا،

٧. شرطَ أَنْ يتحاشوا قبل كل شيء النهم وألاّ يعتريَ أبداً الرهبان سوءُ الهضم.

٨. لأنَّ لا شيء يتنافى مع حالة المسيحي أَكثر من الجشع،

٩. "إحترسوا لئلاّ تثقل قلوبكم في الجشع" ( ).

١٠. أما الأولاد الصغار، فلا تُعْطى لهم الكميّة ذاتها بل أقل ممّا يُعطى لمَنْ هم أكبر سنًا، حفاظًا على القناعة في كلِّ شيء.

١١. أمّا أكل لحوم ذوات الأربع قوائم، فليمتنع عن أكلها الجميع على الإطلاق، ما عدا المرضى الضعفاء جدًا.

٤٠. في كمِّية المشروب

١. "كُلُّ أحدٍ لهُ من اللهِ موهِبَةٌ تخُصُّه، فبعضهم هكذا وبَعْضُهُم هكذا"( ).

٢. ولذلك لا نخلو من الإرتباك في وضعنا وزناً لغذاء الآخرين.

٣. مع ذلك، نظرًا لمن هم ضعفاء، نعتقد أن هامين( ) من النبيذ يكفي كل واحد يومياً.

٤. أما الذين أعطاهم الله نعمة الإمتناع، فليعلموا أنهم سوف ينالون ثوابًا خاصًا.

٥. متى كان مركز الدير أو نوع الشغل أو حرارة الصيف تستلزم زيادة على الكمّية المذكورة، فيكون ذلك منوطًا بحكم الرئيس، على حذر في كل الأحوال لئلا يصل بهم الحد الى الإمتلاء أو السكر.

٦. نحن نقرأ، وهذا حقيقي، "أن الخمر لا تناسب الرهبان قطعاً"؛ لكن باعتبار أننا لا نستطيع إقناع رهبان عصرنا بذلك، فلنتفق على الأقل ألا نفرط في الشرب إلى حدِّ النهم.

٧. لأن "الخمر يجعلُ حتَّى العقلاء كافرين بالله. "

٨. عندما يحدث ألاَّ تسمح الظروف المحليَّة بتوفير كمية الخمر المشار إليها، لكن أقل منها بكثير، أو لا شيء منها على الإطلاق، يكون على المقيمين فيه أن يباركوا الله ولا يتذمروا.

٩. لأننا نُحذِّر قبل كل شيء: الامتناع عن التذمر.

٤١. في تعيين ساعات الوجبات

١. منذ الفصح المُقدَّس وحتَّى العنصرة، يتناول الإخوة طعامهم عند الساعة السادسة، ويتناولون العشاء مساء.

٢. ومن العنصرة وطوال الصيف، يصوم الرهبان يومي الأربعاء والجمعة حتى الساعة التاسعة، إذا لم يكن لديهم عمل في الحقول، أو لم يكن حرُّ الصيف شديدًا.

٣. وفي باقي الأيّام يأخذون طعام الغداء الساعة السادسة.

٤. يجب الإستمرار في تناول الغداء الساعة السادسة، إذا لم يكونوا منشغلين في الحقول أوحرارة الصيف غير شديدة. وليُتْرَك ذلك لحكم الأباتي.

٥. وهو فليعدّل و ينظّم كل شئء بما فيه خلاص النفوس؛ وما يفعله الإخوة، فليفعلوه دون تذمُّر

٦. من اليوم الرابع عشر من أيلول حتى بدء الزمن الأربعيني، يتناولون الطعام دائمًا الساعة التاسعة.

٧. الغروب

٨. ويكون ذلك مرتّبًا بشكل لا يكون هناك حاجة لنور قنديل لأجل التناول الطعام بل ينتهي كل شيء في ضوء النهار.

٩. كذلك في كل الأزمنة سواءً كان زمن صوم او لا، يجب تحديد ساعة تناول الطعام بنوع أن يتم كل شيء في ضوء النهار.

٤٩. في حفاظ الزمن الأربعيني

١. على حياة الراهب الإلتزام بممارسة الزمن الأربعيني في كل وقت؛

٢. لكن قليلون مَنْ لهم تلك الفضيلة؛ لذلك نوصي الجميع ان يحفظوا سيرتهم بكل نقاوة خلال الزمن الأربعيني هذا؛

٣. وان يمحوا خلال هذه الأيام المقدَّسة جميع إهمالات سائر الأزمنة.

٤. نفعل ذلك جيِّدًا إذا ما تخلَّيْنا عن كافة الرذائل واجتهدنا في الصلاة بدموع، والمطالعة وانسحاق القلب والتقشُّف.

٥. إذنْ في تلك الأيام، فلنُضِفْ شيئًا الى واجب خدمتنا المعهودة كصلوات خاصَّة وتقليل في الأكل والشرب.

٦. فليقدِّم كلُّ واحدٍ طوعًا لله بفرح الروح القدس شيئًا مضافًا الى الواجب المفروض عليه.

٧. يعني ذلك أن يحرم جسده شيئًا من الطعام والمشروب والنوم والكلام والمزح، وأن ينتظر بفرح الإشتياق الروحي الفصح المقدَّس.

٨. لكن فليعرض كلُ واحد للأباتي ما يعتزم تقديمه؛ وليكن ذلك مشفوعًا بصلاة الأباتي وموافقته.

٩. لأن كل ما يَتمُّ بدون إذنِ الأب الروحي يُنْسَب الى العُجْبِ بالنفس والمجد الباطل، ولا يستحق أجْرًا.

١٠. يجب أن يَتمَّ كلُّ شيء إذاً بموافقة الأباتي.

٥١. الإخوة الذين ينطلقون الى أماكن غير بعيدة

١. إن الأخ الذي يُرْسَل لغرضٍ ما ويتوقَّع العودة الى الدير في اليوم ذاته، لا يُسيغ لنفسه أن يتناول الطعام خارجَ الدير، حتى إذا دُعِيَ لذلك بإلحاحٍ من أيٍ كان،

٢. اللَّهم إلاَّ إذا كان الأباتي قد أَمرهُ بذلك.

٣. وإذا تصرَّف بعكس ذلك، فليُحْرَم.

١٠. القديس توما الأكويني: يتطرق في السؤال ١٤٧ من القسم الثاني من الجزء الثاني من خلاصته اللاهوتية إلى الصوم. ويعدد له ثلاثة أهداف:

أ) قتل الشهوة

ب) رفع النفس وتأمل الأمور السماوية

ج) التعويض عن الخطايا.

ويحذر الأكويني (وفرنسيس السالسي أيضاً) من ممارسة "صوم السراقين" أي المبالغة في الصوم والسهر على حساب صحة الجسد والقيام بالواجبات وعلى رأسها "المحبة" (سيعود إليها البابا بولس السادس). كما وقد نوه الأكويني إلى حرية كل شخص في تحديد صيامه، مع واجب احترام الأيام التي تطلب فيها الكنيسة من المؤمنين أن يصوموا، وابتعاد فيها عن اللحم والبيض والحليب.

١١. العصور الوسطى: كان الصوم في الزمن الأربعيني، خلال العصور الوسطى المتأخرة، يمتد إلى ٤٦ يوماً بدلاً من ٤٠ إذ كان يشمل ٤٠ يوماً اضافة إلى الآحاد الستة. وتذكر بعض المصادر أن يومي أربعاء الرماد والجمعة العظيمة كانا يومي "صيام أسود"، أي لم يكن يسمح بتناول الطعام قط فيهما (باستثناء المسنين والمرضى طبعاً). لم يكن يسمح خلال هذه الأيام الأربعين بتناول اللحم، ولا حتى يوم الأحد. كما وكان يمنع تناول غالبية المنتجات المأخوذة من الحليب اضافة إلى البيض …

هذا المقال نشر على موقع البطريركيّة اللّاتينيّة القدس، لقراءة المزيد اضغط هنا.

Previous
Previous

الكنيسة في مواجهة فيروس كورونا - قداسة البابا فرنسيس: تفاني العاملين الصحيّين "لقاح" ضدّ الفردانيّة

Next
Next

للمرّة الأولى.. الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة تنظّم دورة تدريبيّة للأساقفة الجدد قبل تعيينهم (صور)