الدرس (٨) من دروس الحكمة في عظة قداسة البابا تواضروس الثاني في إجتماع الأربعاء 20 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2021

تجدون في التالي نصّ العظة الأسبوعيّة لقداسة بابا الإسكندريّة وبطريرك الكرازة المرقسيّة البابا تواضروس الثاني، يوم الأربعاء 20 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2021.

بإسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد. آمين

تحلّ علينا نعمته ورحمته من الآن وإلى الأبد. آمين

دروس في الحكمة

نُكمل مسار تأملنا في مزمور (٣٧):

"لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَارِ، وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ الإِثْمِ، فَإِنَّهُمْ مِثْلَ الْحَشِيشِ سَرِيعًا يُقْطَعُونَ، وَمِثْلَ الْعُشْبِ الأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ. اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ وَافْعَلِ الْخَيْرَ. اسْكُنِ الأَرْضَ وَارْعَ الأَمَانَةَ. وَتَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ. سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي، وَيُخْرِجُ مِثْلَ النُّورِ بِرَّكَ، وَحَقَّكَ مِثْلَ الظَّهِيرَةِ. انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاصْبِرْ لَهُ، وَلاَ تَغَرْ مِنَ الَّذِي يَنْجَحُ فِي طَرِيقِهِ، مِنَ الرَّجُلِ الْمُجْرِي مَكَايِدَ. كُفَّ عَنِ الْغَضَبِ، وَاتْرُكِ السَّخَطَ، وَلاَ تَغَرْ لِفِعْلِ الشَّرِّ، لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَكُونُ الشِّرِّيرُ. تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلاَ يَكُونُ. أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ." نعمة الله الآب تكون مع جميعنا. آمين.

الدرس رقم (٨):

"أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ"...

فالحياة التي نعيشها تحتاج إلى وداعة الإنسان، والوداعة من الصفات الجميلة التي يُعلّمها ربنا لنا "لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ" (مت ١١ : ٢٩)، بالرغم من أن السيد المسيح هو كنز لكل الفضائل.

فالوداعة هي مجموعة من الفضائل في حياة الإنسان، فيها: الهدوء، الطيبة، سعة الصدر، البشاشة، البساطة، الطاعة، الاتضاع، المحبة.

"أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ" (مز ٣٧)...

والوداعة هي ثمرة من ثمار الروح القدس، "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ" (غل ٥ : ٢٢)، أي من عمل الروح القدس في الإنسان...

ومثل قصة راعوث وبوعز، عندما جعل بوعز الفلاحين وهم يجمعون السنابل أن يتركوا ما يقع منهم حتى يلتقطوه الفقراء ويأكلوه، وعندما وجد راعوث تلتقط ما يقع، طلب من الفلاحين أن يتعمَّدوا في وقوع زيادة من السنابل حتى لا تشعر بأي خجل، خاصة بعدما علم بما فعلتَه مع حماتها، وعندما كان بوعز يأتي ليتفقد الحصاد كان يقول للفلاحين "الرَّبُّ مَعَكُمْ" (را ٢ : ٤)، وكانت عبارة وداعة...

كذلك راعوث مع حماتها كانت وديعة وفي قمة الطاعة، حتى عندما تزوجت بوعز حسب الشريعة اليهودية وفرق السن كبير بينهم إلا أنها لم تتذمر ووداعتها ظهرت في محبة ربنا وطاعتها للشريعة، "أَنَا رَاعُوثُ أَمَتُكَ. فَابْسُطْ ذَيْلَ ثَوْبِكَ عَلَى أَمَتِكَ لأَنَّكَ وَلِيٌّ" (را ٣ : ٩)...

البعض يظن أن الوداعة ضعف، فإن كانت ضعف كان لا يذكرها الكتاب المقدس ويُمجّدها، فأكَّد كثيرًا السيد المسيح وقال "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ" (مت ٥ : ٥) في العهد الجديد، وفي العهد القديم "أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ" (مز ٣٧)، فيعيشوا حياة كلها لذة وفرحة...

والقديس موسى الأسود لو كان لم يُقدّم توبة وظل مجرمًا، كان لا أحد يتذكره إلى اليوم، وستنتهي حياته على ذلك، لكنه عندما قدّم توبة ظلّت سيرته في التوبة إلى الآن، بل وشفيع لنا وذلك لقداسته وشفاعته التي عاش بها...

يقول الكتاب "الصِّدِّيقُ يَكُونُ لِذِكْرٍ أَبَدِيٍّ" (مز ١١٢ : ٦)، فالذي يعيش حياة البر والقداسة يكون ذِكره أبدي لا يُنسى، مثال الأنبا أنطونيوس أب جميع الرهبان، والأنبا بولا أول السوّاح، والأنبا بيشوي حبيب مخلصنا الصالح، فسيرتهم وفضائلهم وحياتهم تحيا معنا إلى اليوم، فالوداعة ليست ضعفًا بل هي قوة وتجعل صاحبها يستمر في سيرته عبر الأزمنة ويرث الأرض فعلاً...

مثل صموئيل النبي عندما طلب الشعب أن يكون لديهم ملك عليهم، وترك صموئيل عمله كقاضي، فقال لهم "وَأَمَّا أَنَا فَحَاشَا لِي أَنْ أُخْطِئَ إِلَى الرَّبِّ فَأَكُفَّ عَنِ الصَّلاَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ، بَلْ أُعَلِّمُكُمُ الطَّرِيقَ الصَّالِحَ الْمُسْتَقِيمَ" (١صم ١٢ : ٢٣)، وهذه الوداعة التي يتصف بها الإنسان...

وفي يوم قام شاول بتصرف غير لائق، وهو كَمَلك ليس له دخل في أعمال الكهنوت، فقام صموئيل بتوبيخه "قَدِ انْحَمَقْتَ! لَمْ تَحْفَظْ وَصِيَّةَ الرَّبِّ إِلهِكَ الَّتِي أَمَرَكَ بِهَا، لأَنَّهُ الآنَ كَانَ الرَّبُّ قَدْ ثَبَّتَ مَمْلَكَتَكَ عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى الأَبَدِ" (١صم ١٣ : ١٣)، فاِختار صموئيل النبي الوداعة أسلوب لحياته، وعندما جاء الموقف اِحتاج أن يوبّخ الملك على تصرف صدر منه، وأخبره بنيّة ربنا في إنهاء مملكته وبدايتها مع رجل آخر حسب قلب الله، الذي صار فيما بعد داود النبي...

بأسلوب الإنسان ووداعته يكسب كل إنسان "وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ" (مت ١١ : ٢٩)، وفي أحد الشعانين وهو داخل أورشليم "هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ" (زك ٩ : ٩)، فكان في قديم الزمان الحصان هو رمز للقوة، لكن السيد المسيح استخدم جحش ابن أتان وذلك لأن الأتان يوصف بحيوان متضع وهادئ...

كذلك السيد المسيح وهو الراعي، الرقيق، الوديع، العطوف، ويقول الكتاب "لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ" (مت ١٢ : ١٩)، ويقول الكتاب المقدس "قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ" (مت ١٢ : ٢٠)، وذلك عندما يذكر نقطة مضيئة في الشخص الذي أمامه ويُشجعه ويُقويه، "وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ"، وهذه صفات "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ" (مت ٥ : ٥)...

وقال السيد المسيح ليهوذا عندما أسلمه (أجئت يا صاحب)، بالرغم من أن المسيح كان يعرف بخيانة يهوذا، فَكُل مشاهد المسيح نرى فيها صور قوية للوداعة، حتى على الصليب والناس حوله قائمين عليه بالسب والبصق، وقابل هذا بقوله "يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ" (لو ٢٣ : ٣٤)، فالوداعة أسلوب حياة، والإنسان الوديع هو الذي يكسب كثرة السلامة، واسمه يرث الأرض "أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ" (مز ٣٧)...

وأيضًا لا بد أن الإنسان الوديع يكون حازم مثلما فعل يسوع "بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ" (مت ٢١ : ١٣)، وعندما تكلّم عن المُدن التي لم تؤمن به "وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا" (مت ١١ : ٢١)، وعندما جاء لأورشليم ليُعِدُّوا صلبه "هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا" (لو ١٣ : ٣٥)، ومواقف كثيرة وصف فيها الكتبة والفريسيين "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي" (مت ١٢ : ٣٤)، وأيضًا بالخبث والرياء "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ" (مت ٢٣ : ٢٧)...

الخلاصة:

إن أردت أن تكون حكيمًا فكُن وديعًا بكل ما تشمله هذه الكلمة من معاني، ولكي يتعلّم الإنسان الوداعة:

١- بلا شك أن يكون متواضع حتى تنشأ له الوداعة، لذلك نصلي في مقدمة كل نهار (أسألكم أنا الأسير في الرب أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دُعيتم إليها، بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة، محتملين بعضكم بعضًا بالمحبة) (رسالة بولس الرسول لأهل أفسس)، فالإنسان بغياب اتضاعه لن يكون وديعًا مهما يظهر نجاحه أمام الناس، وتكون النتيجة يوم بعد يوم يخسر إنسان، لذلك يقول "أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ" (مز ٣٧)، ويقصد أن سيرتهم ونموذجهم وحياتهم يرث الأرض...

لذلك تُعلّمنا كنيستنا هذه الصلاة في باكر:

(أسألكم أنا الأسير في الرب أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دُعيتم إليها)، فهذا الجزء مختار بعناية فائقة، فكل شخص الله يُعطيه مسئولية معيّنة ليسلك فيها، (بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة، محتملين بعضكم بعضًا بالمحبة) (رسالة بولس الرسول لأهل أفسس)، وهذه صورة الإنسان الأسير في محبة ربنا، لذلك اتضع في حديثك ومعاملاتك وخدمتك، واِجعل حضورك هادئ.

٢- اللطف، فكثرة تعامل الإنسان مع الأجهزة والتكنولوجيا الحديثة جعلت الإنسان قاسي المشاعر، فصارت حياة الإنسان مرتبطة بالآلة والآلة ليست لها مشاعر وبذلك أبعدت الإنسان عن حياة اللطف، ومثل قول القديس بولس الرسول "وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ" (أف ٤ : ٣٢) ...

هذا الخبر نُشر على صفحة المتحدّث الرسمي بإسم الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني يحتفل بالقدّاس الإلهيّ في كنيسة السيّدة العذراء في مونفيرمي بفرنسا

Next
Next

"كلمة اللّه وقضايا معاصرة"