الجمعية الثقافيّة الروميّة تستنكرُ إستعمال تعبير "الجدل البيزنطي" للدلالةِ على الحوارات الفارغة والنقاشات العقيمة
صدرَ عن الهيئة الإدارية في الجمعية الثقافية الروميّة البيان التالي:
بين فترةٍ وأخرى، يُطلُّ علينا بعض الإعلاميين والسياسيين اللبنانيين بتصاريح وبياناتٍ يستعملون فيها تعبير "الجدل البيزنطي" دلالةً على عقم الحوار أو سخافةِ الجدل بين الأطراف الذين يتناولونهم في تصاريحهم وبياناتِهم.
تستنكرُ الجمعيةُ الثقافيّةُ الروميّة، التي تعملُ على كشفِ التراثِ الروميّ وتوثيقِه ونشرِه، إستعمالَ هذه العبارة، معلنةً بأنَّ هذه العبارة قائمةٌ على معطياتٍ تاريخيةٍ خاطئةٍ وإفتراضاتٍ مشوّهة، ومعتبرةً إياها مهينةً للحضارةِ الروميّة العظيمة وللشعوبِ والجماعاتِ البشرية التي تتحدَّرُ منها وتحملُ تراثَها وتُكملُ مسيرتّها في عالمنا الحاضر. وتلفتُ إنتباهَ الناطقين زوراً بهذه العبارةِ الى الحقائق والمعطيات التالية:
أولاً: بيزنطية بلدةٌ يونانيةٌ قديمةٌ بناها الإغريقُ قبل مئاتِ السنين من الميلاد على مضيق البوسفور، وكان موقعُها إستراتيجياً بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. إختارَ قسطنطينُ الكبيرُ، لاحقاً، موقعَها سنة 325، وبنى فيه مدينة جديدةً دعاها روما الجديدة، عاصمةً جديدةً للإمبراطورية الرومانية، وأُطلِقَ عليها لاحقاً إسم القسطنطينية إكراماً لمؤسِّسِها. بيزنطية كانت مدينةً وثنيةً يونانيةً صغيرة، أما القسطنطينية فهي مدينةٌ مسيحيةٌ كبيرةٌ بلغَ أثرُها العالمَ كلّه، وكانت، في وقتٍ من الأوقات، أكبرَ وأفخمَ وأعظمَ مدينةٍ في العالم. ولما قصدَ الغربيون إهانةَ الروم وتجريدَهم من الدور الكبيرِ الذي لعبوه في تاريخ الإنسانية، إستبدلوا، إبتداءً من القرن السادس عشر، إسمَ القسطنطينية بإسم تلك البلدة القديمة البائدة. لذلك، فمن الجائرِ إستعمالُ إسمِ بيزنطية للدلالة على عاصمةِ الحضارة الرومية، وعاصمةِ المسيحية المشرقية.
ثانياً: القسطنطينيةُ التي تسمّيها هذه العبارة المشؤومةُ "بيزنطية" كانت عاصمةَ الإمبراطورية الرومية التي دامت 1123 سنة بين سنتّي 330 و1453. ورثت هذه الإمبراطوريةُ دولة روما القديمة، وحملت تراثَها، وإعتنقت المسيحية، ونشرتها في العالم القديم، وتميَّزت بثقافةٍ راقيةٍ إنسانيةِ الطابع وأمميةِ المنحى. لو لم تتحلَّ الدولةُ الروميةُ بهذه الصفات، لما عاشت هذه المدة الطويلة ولما أثْرَت الإنسانيةَ بإنجازاتِها الثقافية والدينية الكبيرة. ومن أهم إنجازات الروم، المجامع المسكونية السبعة التي أعلنَت دستورَ الإيمان الذي يتلوه المسيحيون في كلِّ قدّاس، واللاهوت والليتورجيا المسيحيّين اللذين يحدِّدان أصولَ الإيمان والطقوس والتقاليد، وأوّل جامعةٍ في التاريخ أسَّسوها في القسطنطينة سنة 425 ، وأوَّل المستشفيات التي أنشأها القديس باسيليوس الكبير، ومدرسة الحقوق الشهيرة في بيروت، والصروح الهندسية الشهيرة كمثلِ كاتدرائية آجيا صوفيا، والمؤلفات الفلسفية والأدبية، والموسيقى الكنسية الرائعة التي تعتزُّ بها الكنيسة الأرثوذكسية، وفنُّ كتابة الأيقونات المسيحية، وغيرها وغيرها من الروائع الفنية. ولا ننسى بأن النهضةَ في أوروبا الغربية التي بدأت في القرن الخامس عشر هي من صنع المفكرين والفنانين والأدباء الروم الذين هاجروا الى الغرب في ذلك العصر، ونقلوا عصارةَ حضارتِهم الى شعوبِ كانت غارقةً في الجهلِ والإنحطاط.
ثالثاً: تميّز المجتمعُ الروميُّ بنشاطٍ فكريٍّ كبير وبحواراتٍ فلسفيةٍ ولاهوتيةٍ وأدبيةٍ عميقة، في أجواء من الحرية والإنفتاح والديمقراطية، سمحَت للروم بوضعِ الأسسِ العقائدية واللاهوتية للمسيحية وبترتيبِ النظام الكنسيّ وتطوير الفنون الدينية. ومن أهمِّ النقاشات التي جرت عبر هذه القرون الطويلة، نقاشٌ حول الطبيعة الإلهية سمحت بتحديد عقيدة الثالوث الإلهي، ونقاشٌ حول ألوهةِ المسيح وإنسانيتِه، ونقاشٌ حول الإستعانة بالفنون الكنسية كالأيقونات في تعزيز علاقة المؤمن بالعزّة الإلهية. كانت كلُّ هذه النقاشات عميقةَ المحتوى وغزيرةَ الحجج، وأثرَت الحياةَ الروحيةَ المسيحية ثراءً كبيراً. ومن الظلم أن تُتَّهمُ هذه الجدالات الفكرية واللاهوتية بالعقم، وأن تكونَ سبباً للتهكُّمِ على الروم الذين بنوا إحدى أعظم الحضارات الإنسانية عبر التاريخ البشري.
لذلك تتمنّى الجمعيةُ الثقافية الروميةُ أن يُقلعَ الإعلاميون والسياسيون عن إستعمال تعبير "الجدل البيزنطي" للإشارةِ الى الحوارات العقيمة التي يشهدُها عصرنا، وأن يُقدموا، عكس ذلك، على التغني بالتراثِ الثقافي الكبير الذي تركَته الدولة الرومية لأجيالنا الحاضرة.