معايدة عيد الميلاد المجيد لعام 2020 لغبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان
إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام
وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل
وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب
اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في لبنان وبلاد الشرق وعالم الإنتشار
نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات:
"رجاءُ الكونِ وافانا كطفلٍ بينَنا دنا، فقيرٌ ما له ثوبٌ وبالخيراتِ أغنانا"
يعلّمنا الكتاب المقدس بأنّ الله افتقد شعبه على مدى العصور، رافقه في مسيرته الأرضية ببرٍّ وحنانٍ، وسنّ معه عهداً بالنبوءات المعبّرة عن توق الإنسانية إلى المسيح المخلّص. هذا ما يذكّرنا به بولس الرسول: "ولمّا تمَّ مِلء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً لإمرأة... لننالَ التبنّي" (غلا 4: 4).
في عيد الميلاد، نقيم الاحتفال بإتمام وعد الله للبشرية بالحدث الخلاصي الأعجوبي: فالمولود من حشا العذراء الطوباوية مريم بقوّة الروح القدس، هو كلمةُ الله المتأنّس، "الكلمة صار بشراً وحلّ بيننا" (يو 1: 14)، يسوع أي "الله المخلّص". الذي حقّق بتنازله غير المُدرَك، أسمى ما يرجوه الإنسان، أن ينال التبنّي في الألوهية، فتتحقّق البادرة - المعجزة التي تفوق المفاهيم البشرية، سرّاً نقبله بالإيمان، لأنّ لا مستحيل لدى الله، المحبّة!
ليلَ الميلاد، يضيء الملاك العتمةَ، ويبشّر رعاةَ بيتَ لحم بالحدث الأعجوبي الذي اشتاقت إليه الأجيال: ميلاد المسيح المنتَظَر ومعه بشرى الخلاص. وها نحن المسيحيين نحتفل بفرح العيد، فنسرع كالرعاة إلى المذود، ضارعين إلى مولود بيتَ لحم الإلهي، كي يمنحنا نعمةَ الرجاء "فوق كلّ رجاء"، فيُزيل ظلمةَ ليلنا الطويل، ويفيض علينا وعلى العالم بأسره بنعمه وبركاته، وينقذنا من الأمراض والأوبئة والأخطار. وهكذا ينعم الجميع بعامٍ جديدٍ ملؤه العافية نفساً وجسداً، والسلام والأمان والطمأنينة والاستقرار، ويعيش الأبرار بالفرح الروحي والوحدة والمحبّة والألفة.
الرجاء هو الفضيلة الإلهية التي نحتاجها اليوم أكثر من أيّ يومٍ مضى، ونحن نتعايش في لبنان مع الأزمة تلوَ الأخرى. لم تكفِنا الصراعات السياسية والإنهيار الاقتصادي والفوضى الأمنية، حتى ابتُلِي البلد بانفجار مرفأ بيروت الإجرامي، والذي راح ضحيّته مئات القتلى وآلاف الجرحى من الأبرياء. بالرجاء نسعى كي نتلمّس حكمته تعالى، ونحن في ظلمة هذه المعاناة المخيفة، وفي خضمّ الوباء الكوني لفيروس "كورونا" الذي يستمرّ منذ قرابة عام، ناشراً الخوف والمرض والموت. ليس هذا الوباء مجرّد أزمةٍ، بل هو كارثةٌ لم نعرفها منذ عقودٍ، شلّت الحياة الإجتماعية والمعيشية التي اعتدنا عليها، وضاعفت من مُشكلات العائلة، وكبّلت العلاقات بين الدول، وبثّت الرعب واليأس في النفوس، لا سيّما المسنّين وذوي الأمراض.
وليست الأوضاع أفضل في سوريا، حيث شروط الحياة الأساسية غائبة، وذلك بسبب تجدُّد أعمال العنف من قبل العصابات الإرهابية التي لا تزال مدعومةً مالياً وعسكرياً من دولٍ أجنبية. نحن ندين لامبالاة الدول الغربية تجاه معاناة المدنيين الذين عانوا الحصار طويلاً، بحجّة دعم المعارضة في انتفاضتها الدموية ضد حكومة شرعية! إلى المولود الإلهي، ملك السلام، نضرع كي يلهم الشعب السوري نعمة التغلُّب على الأحقاد والمراءاة، والإقرار بالأخطاء التي دمّرت بلدهم، فيتلاقوا بروح الرجاء الحقيقي لنهضةٍ بشريةٍ وعمرانيةٍ سيذكرها الأحفاد عبر التاريخ بافتخار.
كما يسرّنا ونحن في بهجة الميلاد، أن نشارك إخوتنا وأخواتنا في العراق فرحتهم، وهم يستعدّون لاستقبال قداسة البابا فرنسيس في الزيارة البابوية الأولى لبلدهم الجريح، وسيزور قداسته في مستهلّ زياراته الكنسية، كاتدرائيةَ سيّدة النجاة (أمّ الشهداء) السريانية الكاثوليكية، كما سيتفقّد مسيحيي سهل نينوى في قره قوش، البلدة السريانية العريقة التي تضمّ أكبر تجمُّعٍ مسيحي في العراق. ومع جميع الذين يحبّون العراق الخارج من عتمة النزاعات والإنقسامات طوال عقدين من الزمن، نسأله تعالى أن يلهم المسؤولين فيه كي يعملوا بإخلاصٍ وشجاعةٍ على تخطّي جميع العقبات، لما فيه خير شعبهم، وسلامة العراق وازدهاره.
في الميلاد الفرح والرجاء متلازمان، كما هو عنوان الوثيقة المجمعية "فرحٌ ورجاء"، للمجمع الفاتيكاني الثاني. الوثيقة التي تكشف لنا المعنى الحقيقي لمسيرتنا الأرضية، التي عليها أن تتطلّع دوماً نحو السماء، مسكننا الأبدي. واحتفالنا بعيد الميلاد هو عيش الرجاء الذي يبثّ في قلوبنا الفرح الدائم، مهما كثرت الآلام، وتعدّدت الضيقات. الرجاء يحتضن آمال البشرية المشروعة، ويسمو بالمؤمنين لتكون عيونهم مشدودةً نحو الملكوت السماوي، حيث لا وجعٌ ولا حزنٌ ولا يأسٌ، بل العزاء والفرح، بلقاء المخلّص الإلهي، ووالدته العذراء مريم وجميع الأبرار والشهداء.
من الكرسي البطريركي في لبنان، نودّ أن نعبّر عن تمنّياتنا الحارّة وأدعيتنا الأبوية، إليكم يا إخوتنا وأبناءنا وبناتنا المبارَكين بالرب، في لبنان، وسوريا، والعراق، والأراضي المقدسة، والأردن، ومصر، والخليج العربي، وتركيا، كما في بلدان الإنتشار، في أوروبا والأميركيتين وأستراليا.
وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
كلّ عام وأنتم بألف خير. وُلِدَ المسيح! هللويا!
اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي
المصدر: https://bit.ly/2WPLpLx