موعظة قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم في عيد الميلاد

موعظة قداسة سيدنا البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم
في عيد الميلاد 2019
كاتدرائية مار جرجس البطريركية – باب توما، دمشق – 25 كانون الأوّل 2019

«ܒܶܗ ܚܰܝ̈ܶܐ ܗܘܳܐ ܘܚܰܝ̈ܶܐ ܐܺܝܬܰܝܗܽܘܢ ܢܽܘܗܪܳܐ ܕܰܒܢܰܝ̈ܢܳܫܳܐ» (ܝܘܚܢܢ ܐ܆ ܕ)


"فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس" (يو 1: 4)

بينما تبدأ الأناجيل الثلاثة الأولى بتفاصيل ميلاد الرب يسوع المسيح في بيت لحم وانطلاق عمله الخلاصي عند نهر الأردن معتمدًا من يوحنا المعمدان، نرى القديس يوحنا يفتتح إنجيله بمجموعة المفاهيم اللاهوتية العميقة التي يعرّفنا من خلالها على شخصيّة المسيح المخلّص الله الكلمة الأزلي الذي حلّ فينا ورأينا مجده عندما جاء في ملء الزمان مولودًا من العذراء مريم بقوّة الروح القدس. وفي هذه المقدّمة اللاهوتية للإنجيل يقول يوحنا عن السيد المسيح أنّ فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس" (يو 1: 4) هنا يقدّم لنا يوحنا اسمين للسيد المسيح هما الحياة والنور. ولاحقًا نرى السيد نفسه يستعمل هذين الاسمين فيقول في الاصحاح الرابع عشر من الإنجيل ذاته: "أنا هو الطريق والحقّ والحياة" ثمّ في الاصحاح السادس عشر يقول أيضًا "أنا هو نور العالم". 
وإذا ما تمعنّا بهذين الإسمين، نرى أنّهما يعبّران عن كونه الله الحيّ الذي منح الحياة للمخلوقات إذ "كلّ شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 3). وحتّى بعد موته بالجسد، انتصر على الموت بقدرته الذاتية ومنح الحياة للذين في القبور. بعد أن وعد المؤمنين به حياةً أبديّةً لكي "إذا آمنتم تكون لكم حياة باسمه" (يو 20: 31).
وكذلك يقول عن نفسه أنّه "نور العالم" (يو 7: 12) محقّقًا نبوءة صاحب المزامير الذي يقول أنّنا "بنوره نرى النور" (مز 36: 9). وكذلك إشعياء النبي يتحدّث عن مجيئه إلى العالم، فيقول أنّ السالكين في الظلمة أبصروا نورًا عظيمًا (إش 9: 2). إذًا هو "نور العالم" من أجلنا، لكي نرى النور، لا بل يذهب أبعد من ذلك، فيدعو الذين آمنوا به "نور العالم".
ولكن عندما نؤمن به فنحصل على الحياة الأبديّة ونصبح نور العالم، علينا أن نتذكّر أنّنا كذلك إنّما من أجل الآخرين، لكي نكون واسطة ليحصل الآخرون على الحياة الأبديّة من خلال الشهادة التي نقدّمها نحن وأن يشرق نوره فينا لكي نضيء للآخرين. إذًا هي حياة مستنيرة تعدنا بالأبدية وتنير الدرب للآخرين.
هذا هو جوهر حدث الميلاد أيّها الأحبّاء: أنّ الله، من فرط محبّته للبشر، يرسل ابنه في ملء الزمان لكي لا يهلك كلّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة (يو 3: 16). فظهر عمق هذه المحبّة الإلهيّة للإنسان بتجسّد ابن الله من العذراء مريم، متخلّيًا عن مجده العظيم ليولد كطفل محتاج في مذود صغير في مغارة بيت لحم، لأنّ أبواب البيوت سُدَّتْ أمام أمّه العذراء وخطيبها يوسف. يا للعجب الكبير! خالق العالم يظهر بين الناس وليس مَن يقبله. قديم الأيّام مضطجع في مذود. المانح الخبز للجياع يرضع حليبًا كالطفل.
كلّ هذا من أجلنا نحن الذين عصينا أمره وسمحنا للخطيئة امتلاك قلوبنا، فسقطنا من رتبة البنين. ولكن محبّته لنا أنزلته من علياء سمائه وأصعدته خشبة الصليب وهناك دفع ثمن حبّه الإلهي للإنسان بأن مات على الصليب ليكفّر عن خطايا الإنسان، ثمّ قام من بين الأموات وأعطانا أن ننتصر على الخطيئة والموت.
ومسؤوليّتنا اليوم، أيّها الأحبّاء، هي أن نتعلّم من هذا العيد المجيد أنّ المحبّة هي دستورنا كمؤمنين، والعطاء منهجنا، والحياة الأبديّة هدفنا، والاستنارة بنور المسيح وإنارة الطريق للآخرين هو واجبنا كشهود حقيقيّين للربّ يسوع المسيح الذي بميلاده بشّرنا الملائكة بعالم جديد: يتعاظم فيه مجد الله في الأعالي وينتشر السلام على الأرض ويملأ الرجاء الصالح قلوب بني البشر.

نحيّي أبطال الجيش والقوى الرديفة والصديقة الذين يقومون في هذه الساعات بدحر الإرهاب وتحرير المزيد من أرضنا السورية المباركة في أرياف إدلب وحماة وحلب واللاذقية، سائلين الربّ الإله أن يسدّد خطاهم فيحقّقوا النصر الكامل في كلّ شبر من تراب سوريا المبارك، من أقصى شمال شرقها الجزيرة الحبيبة إلى أقصى جنوب غربها الجولان العزيز.
كما نعيّد أمّهات الشهداء اللواتي قدّمْنَ أغلى ما عندهنّ، فلذات أكبادهنّ، من أجل الوطن، سائلين الرحمة للشهداء والشفاء للجرحى والمصابين من مدنيّين وعسكريّين.
وكذلك، نقدّم تهانينا الصادقة بهذا العيد المجيد إلى أبناء الوطن الغالي سوريا، من مسلمين ومسيحيّين، وعلى رأسهم قائد هذه البلاد المحبوب الذي أعطانا جميعًا مثلًا في الصمود أمام جيوش الأعداء. ونصلّي لكي يمنحه الله القوّة والتوفيق في مقاومته المستمرّة لأشكال الحرب الجديدة التي نتعرّض لها من حصار جائر وعقوبات غير قانونية وكذلك من مظاهر الفساد التي يعاني منها أبناء الوطن.
كما نعيّد أركان حكومتنا وكلّ المسؤولين من عسكريّين ومدنيّين. 
ومن هنا، من قلب مدينة الميلاد دمشق، نرسل أطيب التهاني إلى أبناء سورية المنتشرين في أرجاء العالم، متمنّين لهم جميعًا عيد ميلاد مجيد وسنة جديدة مباركة وندعوهم للبقاء على تواصل مع بلدهم سورية، آملين عودة كلّ مَن اضطر للمغادرة بسبب الحرب والظروف القاسية التي مرّ بها الوطن.
كما نقدّم صلواتنا وأدعيتنا في هذا يوم عيد الميلاد المبارك من أجل لبنان العزيز ليعود إليه الاستقرار السياسي والاقتصادي، وأن يوفَّق بحكومة جديدة تلبّي مطالب اللبنانيين المحقّة التي من أجلها خرجوا إلى الساحات منذ أكثر من شهرين. 
وكذلك نصلّي من أجل العراق الجريح الذي ما زال يرزح تحت ثقل التجاذبات السياسيّة وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى أعمال العنف التي أودت بحياة الكثيرين، سائلين الربّ الإله أن يوفّق مسؤوليه في إحلال الأمن والسلام من خلال التوافق على حكومة تلامس توقّعات المواطنين.
كما نوجّه تهانينا القلبية بهذا العيد المجيد إلى إخوتنا أصحاب النيافة المطارنة الأجلاء وأبنائنا الكهنة والرهبان والشمامسة وسائر أبناء كنيستنا السريانية المنتشرين في أصقاع الدنيا، مؤكّدين لهم محبّتنا الأبوية، ومصلّين من أجلهم لكي تحفظهم العناية الإلهية من كلّ مكروه وتُعينَهم على عمل الخير وخلاص النفس ونعمته تعالى تشملكم جميعًا وكلّ عام وأنتم بخير.
ميلاد مجيد
ܒܪܝܟ ܡܘܠܕܗ ܕܡܪܢ

المصدر: صفحة قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني

Previous
Previous

تواضروس الثّاني لقيادات الأزهر ودار الإفتاء: نحن يجب أن نقدّم ثلاث هدايا للإنسانيّة وهي المحبّة والفرح والسّلام

Next
Next

الكاردينال ساكو يترأس قداس عيد الميلاد في كاتدرائية مار يوسف ببغداد