نقولها للدنيا...والكل يسمع
البروفسور د. ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
امام باب هيكل ملك المجد، وقف ثالث عشر الرسل الاطهار، صاحب الغبطة يوحنا العاشر، ليقول للتاريخ مقالاً يناسب المقام والزمان، في حقبة التحولات الكبرى التي يمر بها المشرق الانطاكي.
البطريرك يخاطب التاريخ، واول من يخاطبهم هم اهله، اهل الشام، كل اهل سوريا، التي يمر شعبها بتحولات هي من أخطر ما شهده تاريخُها الحديث.
هو يذكر بالجذور، هو يقول للقاصي والداني "نحن كمسيحيين من تراب الشام ومن أرز لبنان، من شموخ قاسيون ومن رحابة حمص وأصالة حلب، من نواعير حماه وهدير ينابيع إدلب، من بحر اللاذقية ومن فرات دير الزور"، ويؤكد غبطته اننا من اصالة هذه الأرض واسس حضارتها حيث يضيف " لسنا ضيوفاً في هذه الأرض، ولسنا أبناء اليوم ولا الأمس. نحن من عتاقة سوريا ومن ياسمين الشام"، كما يؤكد على مسكونية رسالتنا قائلا "نحن من أنطاكية الرسولية من هذه الديار التي صبغت المسكونة باسم يسوع المسيح" حيث ان الرسل الاطهار قد بروا برسالة السيد ان اذهبوا وبشروا جميع الأمم وعمدوهم باسم الثالوث الاقدس، انطلاقا من بر الشام، سواحل فينيقيا-كنعان الى كل العالم.
في نفس السياق، يخاطب غبطته كل أبناء الوطن، مشددا على الوحدة المجتمعية والاشتراك في الحياة، قائلا "إخوتي المسلمين، ما بين النحن والأنتم تسقط الواو، ويبقى نحن أنتم، وأنتم نحن". "فنحن سويةً أصحاب تاريخٍ مشتركٍ بكل صواعده ونوازله، ومصيرنا مصيرٌ واحد."
لقد حسم غبطته الموقف الذي طالما جهر به وجعله عنوانا أساس في قيمه الوطنية، فحذف هذه "الواو" الكافرة التي تفصل "النحن" عن "الانتم" بان جعل النحن أنتم والانتم نحن. في وجدان البطريرك، بطريرك العرب، لا مكان للتفرقة ولا للتمييز ولا للعصبيات الهدامة، بل حفاظٌ على الخصوصية من ضمن البوتقة الوطنية الجامعة.
من ثم، يؤكد غبطته على سوريا بلدا للوحدة الوطنية، وانها سوف تبقى "واحدةً موحدةً بوحدة ترابها وأولاً وأخيراً بوحدة قلوب أبنائها" مشددا على التفاعل والحوار بين كافة مكونات الوطن، ومؤكدا على ان يد المسيحيين ممدودة دائما للمصافحة من اجل مستقبل واعد لهذه الامة.
في نفس السياق، ولان الوطن يشهد تحولات كبرى، كان لا بد للبطريرك من ان يتشارك مع الجميع في نظرته الى مستقبل البلاد، وان يورد ما يعتبره ضروريا لتأمين الاستقرار والشراكة والتقدم لهذا الشعب الذي ما برح يعاني الامرين من جور التاريخ والعالم عليه. غبطته يورد ما يورده من أفكار ومقترحات من ضمن هاجس تحصين البلاد ومنعها من السقوط فيما ينصب لها من كمائن.
بالنسبة اليه، يجب ان تكون "سوريا الدولة المدنية التي يتساوى الجميع فيها بالحقوق والواجبات"... و"دولة المواطنة حيث لا نستجدي مواطنيتنا من أحد" ... و "دولة العيش المشترك والسِّلم الأهلي، حيث اننا نمد يدنا إلى الجميع" ... و"دولة القانون واحترام الأديان" ... و"دولة احترام الحريات الجماعية منها والفردية، هذه الحرية المسؤولة" ... و"دولة الديمقراطية، حيث السيادة للشعب، والقانون هو الحَكَم" ... و "دولة احترام حقوق الإنسان من خلال ضمان استقلالية القضاء وتكافؤ الفرص بين جميع أبنائها". بالنسبة اليه أيضا، "الضامن الأول والأخير لتحقيق كل ما ذُكر هو الدستور، ولذلك يجب أن تكون عملية صياغة الدستور عمليةً وطنيةً شاملةً وجامعة"، مذكرا بشكل لا يتحمل الالتباس، على ضرورة ان تتجسد الشراكة الوطنية، اول وأكثر ما تتجسد، في صياغة الدستور الذي سوف يرعى مستقبل الناس، ناسنا، أهلنا، في الشام، التي من ترابها جبلنا.
ولان البطريرك يعي تماما ان في البلاد، كما في العالم، الكثير من المصطادين بالماء العكر، ومثيري الفتن، والباحثين عن سبق صحفي بأي ثمن، نجده يحذر ان "المسيحيين ليسوا مادة للتجارة الإعلامية. إذ يجب علينا الانتباه إلى كيفية التعاطي مع وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وما تبثه من إشاعاتٍ كثيرة تنتشر دون أي حسٍّ بالمسؤولية." هو لا يريد ان يتحول المسار الوطني الذي نحن قادمون عليه، الى سلعة إعلامية او سياسية توديان الى ما لا تحمد عقباه ويكون المسيحيون وقودها.
ولأنه بطريرك الحكمة، كما هو بطريرك المحبة، شدد على "ضرورة التمييز ما بين الانتباه والتعقُّل من ناحية، والخوف من ناحية أخرى. فنحن لا نتعاطى بخوفٍ مع بقية إخوتنا السوريين، لأن المحبة هي الرابط الذي يجمعنا كلنا".
على خطى بطاركة انطاكية العظام، وبنهج جديد يحاكي المرحلة، يقف غبطة البطريرك يوحنا العاشر، يعطي دروسا للتاريخ، دروسا مستوحاة من تجارب الماضي ومن نظرة ثاقبة الى المستقبل، وهاجسه الحفاظ على "ملح الأرض" حيث دعوا مسيحيين أولا، لكي يبقوا خميرة الصلاح لعالم ضل سبيله في غياهب حداثة وفي أروقة مصالح لا ترحم.
سدد الرب خطاك يا صاحب الغبطة، وخطى القيادات الروحية الجليلة، من اجل إيصال هذه الامة الى بر الأمان.