نجمُ بيت لحم لمن ضلّ الطريق
هذه الرسالة متوفّرة أيضًا باللّغة الإنكليزيّة.
رسالة الميلاد 2021 من أمين عام مجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال عبس
في قبّة السماء سطع نجم ينبينا بالآتي باسم الآب.
من أعلى العلياء أتى النجم يُخبِرنا أنّ المنتظر قد حضر وأنّ الإنسانيّة هي على عتبة حقبة ليست كالتي سلفت.
لم تستطع السماء الصمت عند حصول التجسّد فتكلّمت عبر النجم.
هو بشير التجسّد كما الصليب بشير الإنتصار على قِوى الظلام.
ساطع كان النجم وخفر في آن.
ساطعٌ بما حمّله الخالق من أنباء، وخفرٌ على قدر تواضع الآتي.
سطع النجم على الحكماء وهم يعرفون ما يقرأون مِن علامات الأزمنة ويقومون بما تمليه عليهم هذه العلامات.
وخفر هذا النجم إذ أخبرنا عن طفل متواضع من أهلٍ متواضعين يلدونه في مزودٍ متواضع.
كم هو حمّال من معانٍ هذا الحدث، العادي في آنه، والمصيري في مآله.
طفلٌ صغيرٌ لا حول له ولا جبروت، يقضّ مضاجع من امتهنوا الجبروت.
طفلٌ صغير دخل الحياة لتوّه، يخرّ له الحكماء ويخشاه الأقوياء.
الحكماء، الذين أدركوا رسالة النجم، أهدوه ذهبًا ولُبانًا ومُرًّا.
بحكمتهم عرفوا ما هو قادم عليه.
أمّا المستكبرين، الذين لم يفقهوا من مجيء الطفل إلّا ما يطال سُلطانهم وعنجهيتهم، فقد جنّدوا كل أنانيتهم وحقدهم لحماية مكتسباتهم الأرضيّة.
طفلٌ صغير بالكاد رأى النور، يخيف طاغية فيُغرق شعبه بالديجور ويزجّه بحمّام دمّ يُضرب به المثل في تاريخ البشريّة.
قُلْ لي أيّها النجم الأزلي الأبديّ كيف استطعت أن تظهر على المستحقين وتحجب نورك عن الساقطين؟
كيف استطعت أن تُرشد، المجوس، الملوك الحكماء الكلدان، الوافدين من أقاصي المشرق، من بيث نهرين، دون غيرهم، إلى حيث مكث العمانوئيل على أرض كنعان؟
أهي أسرارُ الحكمة الإلهيّة أن ينجو المتجسّد بانتظار عذاب الفداء؟
أم هي الإرادة الإنسانيّة في لا وعيها الجماعي تتوق إلى المتجسّد الذي انتظرته الأمم منذ ألفيات؟
أم هو الإنسان الغارق في عبوديته للأقوى وللخطأ والخطيئة، يصبو إلى الإنعتاق منها على يد المتجسّد المتمرّد؟
أم هو الإنسان المتلهِّف إلى أبديّته يتوق أن يشهد غلبة المصلوب على فوهة العدم؟
كلّ هذه المفارقات شهد عليها النجم.
إنه الملاك الذي اقتاد المجوس من أورشليم إلى بيت لحم.
ما رآه المجوس هو ملاك الربّ الذي أرسل إليهم نورًا يفوق وميضه كلّ نور، ليبشّرهم بتجسّد مصدر كلّ نور، ليبشّرهم بقدوم العليّ الذي إتخّذ جسدًا من البتول وقبل الجبلة الترابيّة الحقيرة متساويًا مع بني البشر، سائرًا بهم من عالم الظلمة إلى عالم النور.
لقد تجسّد الكلمة.
لقد تجسّد القدوس الذي صلاحه لا يُفَسّر ووجوده لا يحدُّهُ عقل.
كم أنت عظيمة يا بيت لحم في ما شهِدتيه في ذلك اليوم المفصليّ لبني البشر.
بيث لحمو – بيت الخبز بالآراميّة السريانيّة، لغّة الطفل، لغّة شعبه ولغّة حضارته، أنت تختصرين كلّ البدايات.
منذ ذلك اليوم، هناك من عرف الطريق وهناك من ضلّها.
منهم من عَرف العمانوئيل، حجر الزاوية، وأدرك كَنهَ رسالته وجعلها أقنوم حياته، ومنهم من لم يفقه منها إلّا النزر اليسير، لكنّ أسوأهم من ارتدّ عليها.
كيف يمكن لإنسان ألّا يعرف الحقّ الذي يحرّره؟
كيف يمكن لإنسان ألّا يرى كيف انتصر المولود الضعيف على الطاغية انتصار المحبّة على الكراهية، انتصار الكلمة على السيف؟
من لم يعرف ماهيّة نجم بيت لحم وكل الرموز المحيطة به، رسالة نجم الميلاد، لم يعرف أسس العلاقات الإنسانيّة والحضارة التي بنيت عليها.
هي خراف ضلّت طريقها، وتتمادى في غيّها.
هي تعيش ليل حياتها المشتّتة والتعبة، وأنانية إنقساماتها العمياء الثقيلة عليها كالجبال. وجودها الصغير المحدود متأرجح بين قبولها للآتي ورفضها إيّاه. هي تتوق نحو الكائن وترفضه في آن.
هي فضّلت دنياها على دينها وغرقت في الأنانيّة والماديّة إلى حدّ الثمالة.
هي تحارب جذور حضارتها متنكّرة لفضل هذه الجذور على ما هي عليه اليوم.
شعارُ الصليب على باب الصيدليّة أزعجهم.
عيد الميلاد وما يحمِلُه من وعود وآمال يقضّ مضاجعهم. عطلة صلواته أضحوا يطلقون عليها تسميات للتعميّة عن مكنوناتها.
السّاحات التي كُرّست على أسماء القدّيسين وما تحتويه من رموز وإبداعات فنيّة أضحت تُضيق عليهم عيشهم.
نسيوا أنّ الإله يتجسّد في ميلاد كلّ طفل وأنّ الوعد يتجدّد كلّما امتلأت الأرض حياة.
نسيوا أنّه عندما قال السيّد للصيّادين أنّ اذهبوا وبشّروا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الثالوث الأقدس كانوا هم في عصر الظلمات وإنّ هذا الثالوث هو الذي أخرجهم منها.
"لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُم" (متى 7: 6)
إنّه الزمن الرديء، حيث يُرمى القدس بكلّ نقيصة وحيث تداس الدُرَر.
إنّه الخنزير البرّي يرتد على آدون ليمزّقه ناسيًا أنّ آدون هو إبن القيامة.
باسم العلمانيّة يقومون بتدنيس المقدّس والعلمانيّة منهم براء.
هناك، حيث باسم العلمانيّة والهويّات الحديثة يجري تطويق رسالة المتجسّد وتهشيمها، ينتصب شرفاء هذه المجتمعات يدافعون عن المسيحيّة التي يعتبرونها صنو هوّيتهم.
لهؤلاء الشرفاء نقول أنّ نجم بيت لحم ما زال ساطعًا، ينثر نورًا ومحبّة وفرحًا كلّما تجدّدت الحياة بمولود يأتي إلى هذا العالم.
لهؤلاء الشرفاء نقول أن حافظوا على منبع قيمكم ومثلكم وثقافتكم عبر حفظكم لرسالة السيّد في مجتمعاتكم.
لا تسمحوا أن يستشري العُقوق في أوساطكم لأن في ذلك نهاية لحضارتكم.
من يحثّ على الغدر بمعتقداتكم متوسلًا أهدافًا مُقَنَعة ووعودًا برّاقة إنّما يهدف إلى تدمير حضارتكم وإنهاء ثقافتكم وجرِّكم إلى عبوديّة أغراضه فيكم.
هو يقوم بتسخيف معتقداتكم بينما يضع دينه في مصاف المقدّس.
إنّها رسالة السيّد التي فصّلت الدين عن الدولة إذ أعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
إنّها رسالة المتجسّد التي أرسَت أسس العدالة الإجتماعيّة وحقوق الإنسان.
إنّها رسالة المتمرّد التي حفظت كرامة الإنسان وجعلت المرأة مساوية للرجل.
إنّها رسالة السيّد التي تحمي اللاجئين والمهمّشين وثقيلي الأحمال.
في رسالة المتجسّد المصلوب المتمرّد على الفناء تجدون جذور كلّ ما تصبو إليه حضارات المعمورة لمستقبل أفضل لبني البشر.
أهذه رسالة يمكن أن يخجل بها حاملها؟
إنّه نداء إلى شرفاء الأمم الذين يقمعُهم طاغوت العدميّة والفراغ القيميّ.
قفوا وقفة الرجل الواحد ضدّ اقتلاع ذاكرتكم وإجتثاث إيمانكم!
قفوا وقفة السيّد المتجسّد أمام تجّار الهيكل!
لا تسمحوا أن يُصلب السيّد مرتين!
سامحوا ولكن لا تستسلموا ولا تُسَلّموا كلّ ما هو عزيز عليكم!
العقيدة تساوي الوجود لأنّها السبيل لتجويد الوجود.
العقيدة دليل حياتكم في يوميّاتها كما في مراميها.
يا شرفاء الأمم،
قولوا للّذين فقدوا ذاكرتهم الثقافيّة والأخلاقيّة أن يستلهموا نجم بيت لحم إذ هُمّ قد ضلّوا الطريق.