زمن الشفافية والشراكة في وحدانية الخلق
البروفسور د. ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
عندما خلق الرب الكون، خلقه لكل الكائنات التي ابتدعها واعطاها حق استثمار الموارد التي بها كرم الخالق الخليقة.
الرب خلقنا متساوين في الحق بالوجود، والكرامة، والاستمرار في الحياة، وتجويد هذه الحياة، وقد تجسد من اجل ان تكون لنا حياة أفضل.
الانسان، هذا الذي يحمل النفس الامارة بالسوء، وفي بدايات العصور، في مجاهل التاريخ، قبل ان يعي وجود الخالق وقبل ان يتجلى له الخالق، وقبل ان يفهم كنه رسالة الخالق، عاث في الدنيا فسادا، فسطا على أخيه ونكل به وفتك به، ومارس ضده كل صروف الاذية والتعذيب.
انه قانون صراع البقاء، والغلبة للأقوى، ولا مكان للضعفاء، والكون كون الأقوياء، الى ما هنالك من مسوغات اخترعها عقل الانسان المريض، لكي يبرر فتكه بأخيه والاستئثار بثرواته وموارده.
لقد أتت المسيحية علامة فارقة في هذا التاريخ الإنساني البشع، حيث بشّر الرب المتجسد بوسائل تعامل بين الناس، لم تكن مألوفة قبله، لذلك لم يتحمله جند الاباطرة والفاتحين، ولا حراس النواميس القديمة، فصلبوه ولم يكونوا قادرين على تصور قيامته ذات الثلاثة الأيام.
لقد أتت تعاليم السيد، خلال مسيرته على الأرض، مناقضة لكل ما قيل قبله، وقد ردد تكرارا "لقد قيل لكم...اما انا فأقول لكم". وقد تجلت هذه التعاليم في موعظته الدهرية على الجبل، تلك الموعظة التي لم يستطع الجنس البشري اجتراح ما يضاهيها في مجال السلوك البشري والقيم الحضارية. لقد نقض، هذا الذي لا فناء لملكه، ألاف السنين من تعاليم الجشع والكراهية والوحشية، ووضع الانسان في مرتبة راقية بالنسبة الى باقي المخلوقات.
رغم ذلك، استمر الفتك بين بني البشر، واستشرى الشر، واتخذ اشكالا جديدة حسب تطور أدوات الايذاء، الى ان وجدت الإنسانية نفسها، بفضل الكثير من النخب التي استوعبت رسالة السيد واعتمدتها دليل عمل في حياتها، في طريق مسدود، فتوجهت نحو خيارات جديدة.
تزخر ادبيات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والسياسة والحقوق وغيرها من علوم الانسان، بمراجعات نقدية للذات قامت بها نخب شريفة تنتمي الى المجتمعات التي، بفضل الثورة الصناعية وعصر الألة، استطاعت ان تستعمر الشعوب المغلوب على امرها وتضع يدها على مقدراتها، وحتى استلاب حضارتها، وأحيانا القضاء عليها.
منذ بدايات القرن العشرين، وما بين الحربين العالميتين، تصاعدت انتقادات هذه النخب الفكرية الشريفة، والمعرفة هي الحق، والحق قد حررها، كما تصاعدت الأصوات التي تنادي بإنصاف الشعوب المغلوب على امرها، لدرجة اعتبار علوم المجتمع والأنثروبولوجيا أدوات استعمارية بامتياز.
لقد غارت قيم المسيحية في أعماق نفوسنا وعقولنا، وفعلت فعلها في ادراكنا وقدرتنا على التحليل والحكم، فأزهرت توجهات إنسانية نبيلة تتوق الى نقد الذات أولا ومن ثم الى إرساء ثقافة العدالة والمساواة، والاعتراف بالخطأ، وقبول الأخر واحتضانه، والقبول بالتنوع، ولفظ خطاب الكراهية، وحماية الضعيف ومساعدة المحتاج، الى ما هنالك من توجهات نستطيع اختصارها بتعبير "احترام النفس البشرية" وما يستتبع ذلك من صيانة لكرامة الانسان ومعاملة شركائنا في المجتمع والإنسانية بالشكل الذي يليق بالإنسان الذي قال لنا الرب انه قد خلقه على صورته ومثاله.
ان توجه نزع الاستعمار عن القرارات، وإصلاح المجتمع، هي جزء من مسار هاجس العدالة والمساواة الذي يجتاح المسكونة منذ ابرام شرعة حقوق الانسان وما استتبعها من توجهات عدالة ومساواة على صعيد الجنس البشري. لقد أصبحت هذه الثقافة امرا ثابتا في قيمنا وتوجهاتنا وحياتنا اليومية، بالرغم من عدم تطبيقها بشكل كامل او بالشكل المناسب في بعض الأحيان.
الحركة المسكونية ليست بعيدة عن هذا التوجه الراقي نحو الشراكة القائمة على توق عميق واصيل نحو العدالة، وهذا الامر ليس بالمستجد عليها اذ هي تعتمده منذ عدة عقود، منذ اعتمدت قيمة عليا هي الاشتراك في الموارد، في محاولة لتخطي منظومة الواهب والموهوب له. ان العدالة والشراكة تشكلان قيمتين أساسيتين في ثقافة الحركة المسكونية، التي تتخذ شعارا أساسيا لها، العدالة والسلام، موجهة رسالة لا لبس فيها الى البشرية، مفادها ان لا سلام من دون عدالة.
ان تتوق الكنيسة في الغرب – المانح الى تحرير سلطة القرار من التبعية، وان تعطي شريكها المتلقي شراكة في هذه السلطة، فان من شأن ذلك ان يؤشر الى عمق ثقافة العدالة في نفوس هؤلاء الاخوة في المسيح. هذه خطوة عملاقة في اتجاه اصلاح العالم. انه إزالة للعبودية الحديثة التي تتخذ اشكالا مقنعة وتعتمد خطاب نفاق منمق بشتى التعابير الخشبية الفضفاضة.
ان التحول من القرارات-الاملاءات الى القرارات-الشراكة، حيث للمتلقي المستفيد الكلمة الفصل في تحديد أولوياته، لا ان تفرض عليه من ضمن سياسات مؤسسية مستندة الى سياسة خارجية في التنمية الدولية، لهو خطوة حاسمة في مسار المساواة والشفافية التين تحتلان يوما بعد يوم، موقعا متميزا وذو أولوية في منظومة القيم العالمية.
تشكل هذه الشراكة الإطار الذي يجري ضمنه التفاعل بين مكونات المجتمع الإنساني، حيث يحصل التناضج بين الجماعات البشرية والمجتمعات، في منحى تفهمي وتفاهمي، يؤول الى حضارة راقية متجددة.
ما نطلق عليه في اوساطنا تعبير "العائلة المسكونية العالمية"، هو الموئل الذي يجمعنا ويجعل ان تكون لنا قيما مشتركة ونظرات متجانسة، رغم تنوعها، الى شؤون الحياة والمجتمع ومستقبل الإنسانية، حيث الصراع بين الخير والشر محتدم ونتائجه سوف تحدد مصير انسان الحداثة.
مقابل الاستئثار تأتي الشراكة، مقابل التعتيم تأتي الشفافية، ومقابل الاملاءات يأتي الحوار، مقابل الاذلال تأتي صيانة الكرامة، وكل ذلك يؤشر الى تقدم في نفوس وعقول البشر نحو قيم السيد التي تجعل ان يكون لنا حياة أفضل.