عندما يستّتب العجز في الأمم
هذه الكلمة متوفّرة أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
هذه ليست مقالة في علم النفس الإجتماعي ولا في العلوم السياسيّة. هذه مقالة في مصير الشعوب وغدها.
هذه المقالة مستوحاة من سيرة السيِّد، منذ حَملِهِ السياط على تجّار الهيكل – ثورته على النِفاق والفساد - إلى تفهّمه وهو على الصليب لجَهلِ الشعوب وصرخته، " أغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون".
أسوأ ما يمكن أن يصيب شعبًا ما، هو الوقوع فريسة النفاق والفساد والجهل، وهي صفات ثلاث متلازمة في تاريخ الشعوب. واسوأ ما يصيب شعب ما في هذا السياق هو أن يصل به التزحلق البطيء إلى حدود العجز.
عندما ينحدر شعب ما إلى هذا الدَرْكِ من الإنحطاط، نستطيع أن نقول أنّه قد أصيب بمتلازمة العجز المكتسب، أيّ أنّه شعب لن تقوم له قائمة إلى عقود كثيرة وأنّه قد وقع في عبوديّة شديدة، إمّا للخارج أو لطبقته الحاكمة وهي عادة مُستَعبَدة من الخارج.
يكتسب الشعب العجز بعد أن يكون قد أخفق في محاولات عدّة للخروج من مأزق أو مشكلة أو مجموعة مشاكل تداخلت بشكل بنيويّ قضى على أيّ أمل عنده في الخروج منها. عندما تكثُر المشاكل وتتضافر، تُصبِح أشبه بشرك يصعب الإفلات منه. يقول ديكارت إنّ الروح عندما لا تستطيع الإنتصار تسقط في الإعياء.
اما الأسوأ في كل ذلك فهو عندما يكون صانع المِصيَدة – أو المستفيد منها - مَن إئتمنَه الشعب على مصيره ومستقبله، أو ما يُسمّى "النُخَب الحاكمة". هنا يتحالف الداخل مع الخارج في امتصاص دماء الشعوب وتركها فريسة لشتّى أنواع الكوارث التي لا يمكن الخروج منها من دون تضحيات باهظة، إنسانيّة ومعنويّة وماديّة.
هنا تلعب مناقب الطبقة الحاكمة الدور الرئيس.
يُطلِعُنا التاريخ على حالات كانت فيها شعوب في أوضاع يُرثى لها، على إثر خروجها من حرب أو إحتلال أو كوارث طبيعيّة أو كوارث من صُنع البشر. تأتي نُخبُها الشريفة وتقوم بتضميد جراح أمّتها النازفة وتسير بها نحو الفَلاح والنهضة. والأمثلة كثيرة في هذا العالم عن هكذا حالات.
من جهة أخرى، قد "تُوفَّق" الأمم "بنُخَبٍ" انعدم عندها حسّ المسؤوليّة وانتفى الشرف ولم تعرف للعار معنى، فتُعيثُ في حياة أمّتها فسادًا وتسلب منها خيراتها وتزيدها إحباطًا وتستغلّ نقاط ضعفها – لا بلّ تُمعِنُ في ترسيخها – وتتوسّل في ذلك مقولة "متلازمة العجز المكتسَب"، فتصبح هذه الأمّة مشلّعَة، ممزّقة، فقيرة، لا تقوى على الإنتفاض على واقعها وعلى من تسبّب به، وتصبح أمّة برسم الإندثار.
إنّ إلهاء الشعوب بفتات الأمور عبر منع الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة عنها، هي أنجع الوسائل للسيطرة على هذه الشعوب ومنعها من إزاحة الطُغمَة الحاكمة الجاثمة على صدرها، تلك الطُغمَة المستفيدة من هذا الواقع الإحباطي - الإستسلامي الناجز. ليس فقط "فرِّق تسُد" بلّ أيضًا "فقّر تسُد"!
عندما يستّتب العجز والإستسلام في الشعوب، ويطول الزمن في هذا الوضع، لمدة ثلاثة عقود أو أكثر، كما يذهب المؤرخون، يُصبح الخروج من المصيَدة أكثر صعوبة وأعلى كِلفَة.
أمّا الأسوأ من ذلك فهو عندما تتوسّل الفئات الحاكمة البعد المرتبط بالهويّة العرقيّة أو الدينيّة وتعتمد على إخافة جماعتها من الآخر ومن إحكام السيطرة عليها. عندها يدخل خطاب الكراهيَة على خطّ منهجيّات إستعباد الحاكم للمحكوم، فتكتمل منظومة الهيمنة ويستّتب الأمر للطبقة الحاكمة إلى زمن غير منظور لا ينتهي إلّا ببروز فكر حرّ نيّر قادر على كسر جليد العبوديّة وإرشاد الأمّة إلى رحاب الحريّة، تلك الحريّة التي لا تُدَقّ أبوابها إلا بالأيادي المضرّجة.
ورد بقلم جبران خليل جبران: "يقولون لي: إذا رأيت عبدًا نائمًا فلا تنبهّه لعلّه يحلم بحرّيته، وأقول لهم إذا رأيتُ عبدًا نائمًا نبّهته وحدّثته عن الحرّية".
عندما توهِن الإرادة عند الناس، تنحدر تطلّعاتهم الى أدنى مستوياتها، ويفقد الشعب كرامته، فيدخل في نفق صراع البقاء ويضحي راضٍ بأيّ شيء يساعده على الإستمرار في الحد الأدنى من الوجود وتغيب عن باله وبصيرته القيَم والمُثُل والحياة الكريمة.
من هنا تمرّدنا على الأمر المفعول وشروعنا في العمل على إعادة تأهيل الرأسمال الإجتماعي ومنظومة القيَم في توجّهٍ لإستعادة الكرامة الإنسانيّة، بكلّ أبعادها وكلِّ تجلّياتها.