انسان الحداثة بين ثقافة الصيام وثقافة الاستهلاك
البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
تبدأ في هذه الفترة مواسم الصيام في لبنان والعالم العربي، وتصدف ان يكون الصيام معمما على جميع الأديان في هذه المنطقة الغنية بمكوناتها والمتعددة في انتماءاتها الدينية، والعرقية، والفكرية، والسياسية.
خلال قترة الصيام، وهو جزء اساسي من الممارسة الدينية، يمارس المؤمنون على أنفسهم حرمانا ذاتيا مترافقا مع ضبط للنفس وامتناع عن الكثير من المآكل والملذات، في ممارسة ايمانية لتهذيب الذات وترويض الغرائز عبر لجم التوق الى الملذات، او على الأقل، تنظيمها بشكل يسير بالسلوك الإنساني نحو التسامي.
إضافة الى ترويض الغرائز، يهدف الصيام الى رفع مستوى التأمل عند الانسان، في الحياة ومراميها، وفي عطايا الخالق وكرمه، كما يدفعه الى التفكير بالإنسان المعوز الذي يعيش الحرمان بشكل يومي نظرا لوضعه المادي.
تقابل مدرسة الحرمان هذه، مدرسة معاكسة لها، هي مدرسة الاسراف واشباع الملذات حتى الثمالة، ونستطيع ان نقول ان ثمار هذه المدرسة لم تكن حميدة حتى اليوم، لا على صعيد تسامي النفس البشرية، ولا على صعيد الاقتصاد والعقلية الاقتصادية، ولا على صعيد القيم الإنسانية، ولا على صعيد البيئة.
مدرسة الاسراف هذه تحث الناس على الصرف والاكثار من المقتنيات واستهلاكها، واقتناء أكثر من منتج لسد الحاجة نفسها، بسبب تنافس مؤسسات الإنتاج، وشراء ما لا يحتاجه الانسان أحيانا، فقط لتوفر المادة ووجود عروض مغرية عليها، مما ينعكس ازدحاما في المواد المكدسة في المنازل، واعباءً على ميزانيات الاسر واستنفاداً لمخزون بطاقات الائتمان.
انسان الحداثة اليوم يجد نفسه ضائعاً بين نزعة يمكن تسميتها "تصوف اجتماعي" ونزعة شراهة في المأكل والمشرب والملبس والمنتجات عامة.
انسان الحداثة يجد نفسه ممزقا بين انتماء ديني يثنيه عن البذخ ويحثه على الاقتصاد في المصروف ومساعدات فقيري الحال، ونزعة اسهتلاكوية (consumerism) تسوغ له الاستهلاك بإفراط وشراء ما هب ودب الى السوق التي تحولت من موقع لسد الحاجات، الى كمين لمداخيل الناس ومدخراتها.
من الضروري ان يسد الانسان حاجاته، وبأفضل السبل الممكنة، وان يعيش ببحبوحة ورفاهية، ولكن ان يتحول الى عبد لحملات الترويج والتسويق التي تقوم بها المؤسسات التي تنتج ما نحتاجه وما لا نحتاجه – بل نشتريه فقط تحت ضغط الإعلانات الترويجية، فهذا امر غير مقبول.
لا أحد يرفض ان يتطور سد الحاجات الإنسانية الى ارقى مستوياته، ولكن لا احد يقبل بما يجري لإنسان مجتمع الاستهلاك، والتبعات الاقتصادية والبيئية لذلك المسار.
الابتكار الإنساني امر رائع، ومطلوب، ولا حدود له، ولكن كل شيء في هذا العالم يحتاج الى ضوابط، والا تحولت المعمورة الى فوضى عارمة.
مدرسة الصيام، مدرسة التأمل في الحاجات البشرية، مدرسة التأمل في توزيع الثروات وحرمان بعض فئات المجتمع من الحياة اللائقة، مطلوب منها تقويم الاعوجاج القيمي الذي تسببت به سياسات المنتجين الذين يبحثون عن الربح بأي ثمن.
المطلوب ان ترافق مواسم الصيام حملات توعية على الاستهلاك، ومنطقه السليم، والاضرار التي سببتها ثقافة وسياسات الإقراض والاستهلاك منذ سبعينات القرن الماضي حتى اليوم. كل ذلك، دون ان نتسبب بأضرار على الإنتاج وخلق فرص العمل وزيادة الثروة المجتمعية.
المطلوب ان لا ينسينا البذخ والرفاهية الذي ننعم بهما ان هناك خالق قد تنعّم علينا بما صار متوفرا لدينا، وان هناك مخلوقات من واجبنا العطف عليها برا بوصية الخالق.