هجرة الشباب، احراج حتى الإخراج

ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ. عبس هذه الكلمة في الطاولة المستديرة الّتي نظّمها مجلس كنائس الشرق الأوسط تحت عنوان "هجرة الشباب تحدٍّ للكرامة الإنسانيّة"، يوم الخميس 1 آب/ أغسطس 2024.

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

انه مسار الخيبة، يبدأ غداة يوم التخرج، بعد ان يفرح الطلاب مع رفاقهم واهلهم واساتذتهم، ويعيشون مقولة امرؤ القيس ان اليوم خمر وغدا امر.

فرحة التخرج لا تضاهيها فرحة، اذ هي تحدد الحيز حيث ينتقل الشباب من مرحلة التحضير لخوض الحياة العملية، الى خوض غمار معركة إيجاد مكان لهم في المجتمع، عبر سوق العمل.

عندما يدخلون سوق العمل، تتالى الخيبات من مؤسسات ظنها المتخرج تنتظره فاتحة ذراعيها لاستقباله، فيتخصص في تجميع الاعذار وأساليب الرفض المهذبة، فقط لأنه في بلادي لا أحد يبالي بالشباب، ولا دولة جهدت لان تحضّر لهم مكان في مجال العمل، ولا هي معنية بمستقبل أفضل لهم.

بين أحلام الدراسة الجميلة على مقاعد الجامعة، والواقع الأليم الذي يعيشه المتخرجون، مسار معاناة يثخن نفسهم بالجراح، ولا أحد يعرف كيف يمكن ان ينتهي.

البطالة على ازدياد مضطرد في كل انحاء العالم، وهي على ازدياد بوتيرة اعلى عندنا. اما أسوأ ما فيها، فهو التدني الذي نراه في العمر الوسطي للمتعطلين. ان البطالة تزداد شبابا، أقول لطلابي، اذ ان نسبة المتعطلين في أوساط الشباب أصبحت تلامس الخطر على السلم الأهلي، حيث يتورط بعض الشباب المتعطل اليائس في اعمال، لا هي شرعية ولا هي قانونية، في محاولة منه لإعادة الاعتبار لشخصه ولشهادته، وتأمين حاجاته الحياتية.

حتى البرامج التي اجترحتها بعض الدول المتقدمة صناعيا من اجل لجم البطالة، لم تكن مجدية كما كانوا يتوقعون. لا التدريب المستدام، ولا تزويد الشباب باختصاصات متعددة، ولا عقود التدرج، ولا الإعفاءات الضريبية، أعطت النتيجة المرجوة منها. في كل حالة تجد الشركات طريقة تتحايل بها من اجل تحقيق كسبا على حساب الشباب المتعطل، والذي أصبح تعطله طويل الأمد.

هذا في البلدان الصناعية المتقدمة، فكيف هي الحال في بلادنا، حيث ما زلنا بعيدين عن وضع هكذا سياسات، وفي غربة عن كل ما يمت الى تخطيط القوى العاملة وربطها بالتربية والنمو الاقتصادي؟

إزاء ظروف من هذا النوع، حيث من الصعب جدا إيجاد – او تأسيس – عمل لائق، وحيث الوظائف المتوفرة، من حيث محتواها ومدخولها، تضع من يقبل بها في حالة بطالة مالتوسية، أي ان مدخوله يكفي بالكاد طعامه حصرا، يجد الانسان نفسه في وضع من يكفر بوطنه، ويقرر الرحيل عن هذا المكان، حيث الضيم الاقتصادي والهامشية الاجتماعية. هذا إذا لم يغرف الشاب المصاب بالخيبة، من قيمه واخلاقه، ولم يلتحق بالأعمال التي توصله الى ان يقاضى جزائيا.

اما الخيار الأخر المحتمل، فهو ان يقبل الانسان المتعطل بالعمل في غير اختصاصه، مما يضعف قدرته الإنتاجية ويضعه في حالة البطالة المقنعة. معاناة البطالة المقنعة مُرّة، لان العمل الذي سوف يحظى به هو حكما أدنى مرتبة ودخلا من العمل الذي تخصص له، وهنا أيضا ينحدر احترام الذات الى أسفل مراتبه.

يترافق كل ذلك مع تداخل الواسطة والاستخدام في حرب على الكفاءة، رغم ان القطاع الخاص يفضل الاستخدام بناء على الكفاءة، من اجل الحصول على إنتاجية عالية من قبل اليد العاملة التي يستخدمها. في الكثير من الحالات، ما زالت المحسوبيات في بلادي اقوى من المعايير العلمية في الاستخدام.

اين تكمن العلة في كل هذا المسار المزدحم بالخيبات؟

العلة في أساس النظام الاقتصادي والتربوي، بل قل في أساس بنية انظمتنا.

كيف تريدون ان تؤمن الرواتب حياة لائقة عندما يمعن النظام الضريبي في سوء توزيع الدخل والثروة؟

كيف تريدون ان يجد الشباب الوظائف المناسبة ولا يقعون فريسة أي شكل من اشكال البطالة عندما لا يكون هناك تنسيق وتعاون وثيق بين القطاع التربوي والقطاع الإنتاجي؟

يعيش لبنان، منذ ما قبل حقبة الانتداب، انفصاما طبقيا نراه يزداد يوما بعد يوم، والطبقة الوسطى، التي هي المعبر الأساس في الحراك الطبقي، تعيش ازمة بقاء، فتتقدم تارة، وتنحسر طورا، حسب الاستقرار الأمني والسياسي، او حسب الفائض المالي في فترات معينة.

في دراسة قام بها زملاء باحثون في الاجتماع الاقتصادي، وجدوا ان من يمسك بثروة البلاد هم كناية عن 400 عائلة، تمتلك القطاعات الإنتاجية، من النقل والشحن وصولا الى المصارف وشركات الـتامين، وهذه الاسر ترتبط مع بعضها البعض بصلاة القربى والمصاهرة، والجدير بالذكر ان هذه الطبقة هي عابرة للطوائف. عند المصالح تنتفي الطائفية.

لبنان، مثل كل البلدان الصغيرة الحجم، لا يفسح مجالا لحراك اجتماعي اقتصادي كاف، ولا يسمح للأجيال التي تأتي الى مجال العمل ان تحقق تطلعاتها. لبنان بحجمه، يضاف اليه غياب السياسات الناجعة على الصعيد التربوي والاقتصادي، ليس وطنا يمكن للإنسان ان يحقق فيه تطلعاته، الا إذا كان من المحظيين سياسيا او ماليا، وهي عادة الاثنين معا.

لا مكان لكم! يقولها القيمون على ثروات البلاد ومقدراتها، للشباب الباحث عن مستقبل. الشباب اللبناني والعربي الطموح، يجد أبواب الرزق – وابواب الكرامة الإنسانية – موصدة في وجهه، فلا يجد سبيلا لتحقيق ذاته الا بالهجرة.

تجدهم بالآلاف يصطفون على أبواب سفارات العالم، يتحملون سوء المعاملة أحيانا، من اجل الحصول على أية وثيقة تسمح لهم بالخروج من مستنقع البطالة والفقر والاحباط.

اوَ تسألون لماذا لا يحتفظ اللبنانيون المهاجرون بهوياتهم، ولا يطالب بها أولادهم عندما يفقدها أهلهم الا لماماً؟

الجواب بسيط: لبنان بالنسبة إليهم مثل فاكهة السفرجل، كل عضة بغصة!

Previous
Previous

"الكاردينال أغاجانيان بطريركُ الأمس وقدّيسُ الغد": المطران باديشاه

Next
Next

لقاء عن بُعد مع العاملين الصحيّين في غزّة من تنظيم مجلس الكنائس العالمي