من أيام انطاكية المجيدة

رعية تلتقي راعيها على ارض القداسة

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

في ذلك الزمان، قرر رسولان من بلادي تأسيس كنيسة السيد المتجسد، من اجل احتضان المؤمنين الذين كانوا يعانون من الاضطهاد على ايدي أعداء البيعة، فكان الكرسي الانطاكي المقدس، وكان بطرس وبولس، هامتي الرسل، الشهيدان لاحقا، هما المؤسسان.

في ذكرى تأسيس الكرسي الانطاكي، تحتفل الكنيسة بهذه المناسبة، مخبرة التاريخ انها عصية على الزمن، وأنها سوف تتابع معانقة ابناءها حتى انقضاء الدهر، وسوف تواصل الكرازة بأسفار الخلاص، ما دام الكون كونا، وما دامت البشرية بحاجة الى هذا الخلاص.

الزمان، يوم الجمعة 28 حزيران/يونيو. المكان، دير رؤية القديس بولس، في تل كوكب، من ضواحي دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ. التوقيت، صلاة الغروب.

كانوا هناك، وكانت الشمس على مغيب. أتوا بأعداد غفيرة، من كل نواحي الكرسي الانطاكي، ومن المغتربات، قيادات كنسية ورعايا، غطوا الساحات بحضورهم، منتظرين مجيء الراعي، البطريرك الملهم، وإنك لتحسبنهم ينتظرون مجيء بولس الرسول، في استعادة للرؤية التي غيرت مسار الإنسانية.

في هذا المكان بالذات بدأت استحالت شاوول الى بولس، كما ورد في اعمال الرسل:

“وبَينَما هوَ يَقتَرِبُ مِنْ دِمَشقَ، سَطَعَ حَولَهُ بغتةً نُورٌ مِنَ السّماءِ، فوقَعَ إلى الأرضِ، وسَمِعَ صَوتًا يَقولُ لَه: «شاوُلُ، شاوُلُ، لِماذا تَضطَهِدُني؟» فقالَ شاوُلُ: «مَنْ أنتَ، يا ربّ؟» فأجابَهُ الصوتُ: «أنا يَسوعُ الذي أنتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ علَيكَ أنْ تُقاوِمَني». فقالَ وهوَ مُرتَعِبٌ خائِفٌ: «يا ربّ، ماذا تُريدُ أن أعمَلَ؟» فقالَ لَه الرّبّ: «قُمْ واَدخُلِ المدينةَ، وهُناكَ يُقالُ لَكَ ما يَجبُ أنْ تَعمَلَ». وأمّا رِفاقُ شاوُلَ فوَقَفوا حائِرينَ يَسمَعونَ الصّوتَ ولا يُشاهِدونَ أحدًا. فنهَضَ شاوُلُ عَنِ الأرضِ وفتَحَ عَينَيهِ وهوَ لا يُبصِرُ شيئًا. فقادوهُ بِـيَدِهِ إلى دِمَشقَ. فبَقِـيَ ثلاثةَ أيّامٍ مكفوفَ البَصَرِ لا يأكُلُ ولا يَشرَبُ.” (أعمال الرسل 9:3-9)

هذا هو المكان الذي احتشد فيه المؤمنون، مقبلين من كل انحاء العالم. هل كانوا يتأملون مجيء شاوول لعلهم يبصرون النور آت من السماء، او يسمعون صوت المسيح يناديه؟

في هذا المكان المقدس، شيدت الكنيسة الدير الذي أطلقت عليه اسم دير رؤية الرسول بولس، تيمنا بالحادثة التاريخية التي حصلت هناك، وأضحى هذا المكان محجة للمؤمنين، يقصدونه من كل اصقاع المعمورة.

 لحظات ويحضر البطريرك، يوحنا العاشر، ها هو يقترب، فتشرئب الاعناق وتشخص العيون لوهلة، لقد حضر ثالث عشر الرسل القديسين الاطهار، يتفقد رعيته، ابناءه الذين يطوف عليهم، يتفقد احوالهم، في شتى مناطق الكرسي الانطاكي، ويشد ازرهم ويزودهم بقوة روحيه تساعدهم على الاستمرار، رغم كل المآسي التي عصفت بالمشرق الانطاكي في كل زاوية منه، وكل المؤامرات التي حيكت ضده.

هم حضروا لمقابلة البطريرك، بكل الشوق الذي يمكن ان تكتنزه نفس بشرية، وقد تجلى ذلك في المناداة التي نادوها، وفي الاهازيج التي صدحوا بها، وفي صيحات الفرح التي أطلقوها، وفي ابيات الشعر التي قالوها. الأطفال والراشدين والعجزة كانوا هناك، شيبا وشبانا، أتوا لتحية البطريرك والتبرك منه، ومرافقته في صلاة غروب عيد تأسيس الكرسي الانطاكي الرسولي المبارك.

العاطفة الجياشة تجاه البطريرك تجلت عبر الثقافة الشعبية لهذا الشعب الأصيل، الذي لم يفقد هويته رغم الحصار، والافقار، والتهجير، والإرهاب، الذين عاشهم من حرب افترائية، دبرت له في ليل مدلهم الظلام، في غرف سفلية مشبوهة، لتنال من صموده وكرامته.

بركة البطريرك وحضوره هم جزء من معنويات الصمود لهذا الشعب المؤمن الصامد الذي جُبل من تراب الأنبياء والرسل.

في هذه اللحظة بالذات، استذكرت انشودة كانت تنشدها والدتي وانا يافع، وتتكلم عن ارض الشآم مهبط الوحي المجيد، وإننا قد جبلنا من تراب الأنبياء وأننا أبناء المعالي. كم هي على حق!

 خلال "مسيرة" صاحب الغبطة من مدخل باحة الدير الى الكنيسة، حيث اقيمت صلاة الغروب، كان البطريرك يتوقف بين الفينة والأخرى، مباركا المؤمنين المحتشدين في الساحات، مبادرا الى منحهم البركة، او مستمعا الى دعوات وتعابير محبة، او ابيات شعر او زجل، نظموها له تعبيرا عن محبة وشوق، وكانت بسمته المعتادة لا تفارق وجهه كل الطريق.

بعد الصلاة، جلس صاحب الغبطة في باحة الدير، والى جانبه ممثلو الهيئات الرسمية، وطفق المؤمنون يأتون اليه، للسلام واخذ البركة، واخذ الصور احياناً. انه شعب مؤمن يعانق سيده ويعبر له عن انتماء لا لبس فيه، وولاء لا جدل حوله. وبقي غبطته مع الناس لفترة طويلة، كافية لان يكون قد تواصل مع كل من كان حاضرا ومنحه البركة. تلت ذلك مائدة محبة كان قد دعا اليها غبطته المؤمنين والرعاة.

الراعي الساهر على رعيته لا تتبدد خرافه، وهو يتعهدها الى ما لا نهاية، بالروح، بحضوره ورعايته وبشد ازرها، وبالمادة، عبر العمل التنموي، وذلك على حد سواء، لان قيادته منطلقة من يقين ان الحياة مادة وروح، وان كلاهما ضروري للاستمرار بكرامة إنسانية لا معنى للحياة من دونها.

تحية اكبار واجلال لك يا بطريرك مدينة الله العظمى انطاكية وسائر المشرق الانطاكي، يا رئيس الرعاة، يا ثالث عشر الرسل القديسين الاطهار، تجوب المدى الانطاكي والعالم، تتفقد رعيتك.

تحية لك ولكل قائد تؤرق لياليه أحوال شعبه وهو يريده عزيز الجانب، مصان الكرامة، يحيا بعزة واباء.

تحية لك ولكل قائد يفهم رعيته وشعبه، ويعضدهم في مسيرة حياتهم الصعبة، يبلسم جراحهم الجسدية والنفسية، ويرشدهم الى سواء السبيل.

في تل كوكب، امام دير رؤية الرسول بولس، حيث دارت معارك طاحنة لسنوات خلت، تستحضر ليس فقط انطاكية، بل أيضا الإسكندرونة وكيليكيا، واضنة ومرسين، وعينتاب، وكلس وخربوط، والرها، ونصيبين، وصولا الى طور عابدين وحكاري، والموصل وعينكاوا، حيث نزف اجدادنا، واخوتنا اليوم، حتى رووا الأرض بدمائهم الزكية. هناك تستحضر القدس وسائر ارض القداسة السليب.

هناك تشعر أنك على ارض مقدسة، كل حبة تراب فيها تحكي قصة شهيد.

Previous
Previous

مومنتوم، أسبوعيّة إلكترونيّة من مجلس كنائس الشرق الأوسط

Next
Next

حضرة القسّيسة د. كارين جورجيا طومسون و د. بيتر مكاري