بين التحرش والعبودية...وعي وتمرد

ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ. عبس هذه الكلمة في الطاولة المستديرة الّتي نظّمها المجلس تحت عنوان "التحرّش الجنسي وحفظ الكرامة الإنسانيّة"، يوم الخميس 30 أيّار/ مايو 2024.

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

ان يستعمل مخلوق ما، مخلوقا آخر، رديفه في الخلق والإنسانية، من اجل ملذات جسدية ليس إلا، فهذه ذروة تشييء الناس وتحويلها الى أدوات، يستعملها هذا المستغل طالما يجد في ذلك متعة، ثم يرميها مثل خرقة بالية.

كم هي امّارة بالسوء، هذه النفس التي لا تعرف ضوابط الحياة والمجتمع، او لا تعترف بها. كيف تربت هذه النفس، وكيف اكتسبت قيمها وكيف عاشت تنشئتها الاجتماعية؟ في اية حالة مرضية عاشت هذه النفس لدرجة انها لا تأبه للألم الذي تتسبب به للغير والذي يصل الى حد الغاء هذا الغير، اذ كم انتهت جرائم التحرش الجنسي بجريمة قتل راح ضحيتها المستضعفين الذين لم يتعلموا التمرد في الدفاع عن الذات والكيان.

ينبينا الاعلام، بشكل دوري، بأخبار كوارث تحرش حصلت وافضت الى ما لا تحمد عقباه. اخبار في كل الاتجاهات، كبار يتحرشون بكبار، كبار يتحرشون بأطفال، أقارب او اهل يتحرشون بمن يفترض بهم حمايتهم، كبار وصغار يختفون، ثم يعثر عليهم بعد حين متحللين تحت التراب، او لا يعثر عليهم ابدا.

لن ادخل هنا في الاحصائيات، ولن اعتبرها صورة صحيحة عن الواقع، رغم أهميتها، اذ ان ما يقال او يعرف في هذا المضمار هو اقل بكثير مما يحصا بالفعل. الصمت هو سيد الموقف في هذه الغابة المسمات التحرش الجنسي، والتستر الناجم عن تضامن عائلي غبي يضحي بالحلقة الأضعف، الجديرة بالحماية، تفاديا للفضيحة.

كم من مسارات اضطهاد وقمع وعنف واستغلال جنسي خرجت الى العلن بعد سنوات، وحتى عقود، كانت خلالها الضحايا تعتصم بالصمت خوفا من امر ما، حتى اتى من نحر الورم واخرج القباحة الى العلن.

اية حالة مرضية تلك التي تنتشر في المجتمع بصمت قاتل، تفتك بمستضعفيه، الذين قد لا يوقنون في البداية ما يجري لهم، بسبب سنهم او جهلهم، او الذين كمت افواههم عندما وعوا وضعهم وارادوا الكلام.

التحرش موجود في كل مكان، في البيت، في المدرسة، في الجامعة، في العمل وفي الشارع، ورقعته تتوسع، والوعي ضده يتوسع، ولكنه ما زال حاضرا بشكل خفي في اوساطنا.

ما السبب؟ عدم الوعي بما فيه الكفاية وعدم الجرأة بما فيه الكفاية، اما خوفا من تبعات انتقامية او تفاديا لفضيحة.

التحرش ذو الطبيعة الجنسية، وهو يتضمن عمومًا مقدمات أو سلوكيات جنسية غير مرغوبة، يتنوع حسب الفاعل والمكان الذي يحدث فيه، ويجعل الضحية تشعر بالإهانة، أو التحقير، أو الترهيب، أو الإذلال، أو التهديد، أو الخوف، وهو عادة يسبب معاناة للضحية ويؤثر سلبًا على حياتها بشكل مباشر. لذلك يعتبر شكلا من أشكال العنف والتمييز القائم على النوع الاجتماعي.

ولكن المشكلة ان تقنيات التواصل الحديثة، والأزمات الاجتماعية التي يعيشها الناس في ظل الضائقة الاقتصادية – في أي مكان من العالم – يسهل السير بالتحرش الجنسي لمن أراد اعتماده للوصول الى مأرب ما.

لقد ألقيت عدة محاضرات، واقمت عدة دورات تدريبية وورش عمل، لرفع الوعي لدى بعض الفئات الاجتماعية المستضعفة، ضد التحرش الجنسي، واشكال التحرش الأخرى، مثل التنمر، والتحرش النفسي، او تشويه الصورة ،او السمعة، او التحرش العنصري، او التحرش الطائفي، وحتى التحرش ضد ذوي الحاجات الخاصة، ووجدت ان لها تقاطعات، بشكل او بأخر، وبكثير من الأحيان، مع التحرش الجنسي، بمعنى ان الواحدة تفضي الى الأخرى. وجدت أيضا، من مشاركات المتدربات، ان التحرش الجنسي متوسع أكثر بكثير مما نرى او نظن.

كذلك، وبحكم عملي التربوي، قد تعاملت كثيرا مع حالات تحرش تعرضت لها متخرجات حديثات الوصول الى سوق العمل، ويمكنني ان أؤكد لكم ان بعض الحالات كانت حادة لدرجة انها قد تسببت بأمراض مزمنة لبعض هذه الضحايا.

والجدير ذكره، اننا قد أدخلنا فصولا خاصة عن التحرش في المقررات التعليمية في جامعة القديس يوسف، منذ نهاية الثمانينات، خصوصا في المواد التي تتعاطى شؤون العمل، مثل علم اجتماع العمل او علم نفس العمل، وقد ساعد ذلك في تحصين الطالبات بنسب كبيرة ضد هذا الوباء النفسي والاجتماعي.

اما اليوم، فان سياسات مكافحة التحرش الجنسي في العمل قد أصبحت متطورة بشكل متقدم جدا في الجامعة، من ضمن سياسة جامعية عامة وحازمة، وأنظمة، وهيئات ترعى تطبيق هذه الأنظمة، وشعارها "صفر تسامح".

اما في مجلس كنائس الشرق الأوسط، فإننا، إضافة الى نظام مكافحة التحرش الجنسي المطبق عندنا، نبث، قدر المستطاع، الوعي ضمن دورات التوعية والتوجيه التي نقيمها في أوساط الجماعات الضعيفة والمهمشة التي نهتم بها.

في كانون الأول 2020، أقر مجلس النواب اللبناني قانوناً بالغ الأهمية، هو القانون رقم 205 لتجريم التحرش الجنسي وتأهيل ضحاياه.  بعد سنوات طويلة من غياب المشرّع اللبناني عن هذا المجال، هذه بداية جيدة وواعدة عسى ان يكون لها استمرار.

اهلا وسهلا بكم، اخصائيين ومحاضرين وناشطين، تضمدون جراح الناس وتمدون لها يد المساعدة من اجل تحصينها.

Previous
Previous

مومنتوم، أسبوعيّة إلكترونيّة من مجلس كنائس الشرق الأوسط

Next
Next

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط الدكتور ميشال عبس يشارك في محاضرة للدكتور هاري هاغوبيان