الكنيسة والكفاءات وفعالية الخدمة

ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ. عبس هذه الكلمة في افتتاح الدورة التدريبية الّتي نظّمتها دائرة الدياكونيا والخدمة الإجتماعيّة في المجلس، تحت عنوان "إدارة الأزمات واستجابة الكنائس في زمن الكوارث"، وذلك بين 6 و9 حزيران/ يونيو 2024، في بيت عنيا، حريصا - لبنان.

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

هذه الدورة التدريبية تطرح اشكاليتين أساسيتين متلازمتين: إشكالية الكفاءات وتنمية الرأسمال الإنساني والتدريب المستدام، من جهة و، من جهة أخرى، إشكالية دور الكنيسة في إغاثة الناس ومواكبتهم في معاناتهم ومد يد المساعدة لهم للخروج من مآسيهم.

الاشكاليتين متلازمتين من منطق الفعالية (efficiency) واستعمال الموارد المتوفرة بالطريقة الفضلى (optimization)، أي ان صلب المقاربة يكمن في منع هدر الطاقات والموارد، وتطبيق منطق إدارة الاعمال واقتصاد الادارة (managerial economics) في العمل الإنساني، وهذا ما لم يكن متوفرا في الماضي، عندما كان ما يسمى بالعمل الاجتماعي متروكا لمن ليسوا من ذوي الاختصاص، رغم حسن نواياهم.

ان العلوم والتقنيات، في زمن الحداثة، وفي مجتمع ما بعد الحداثة، تتطور بسرعة فائقة قد لا يستطيع الانسان اللحاق بها، إذا لم يحظ بالتدريب المناسب، فيضعه هذا التطور، اما خارج سياق التاريخ، اما على هامشه.

يجد المتابع بشكل دائم عالم إدارة الموارد الإنسانية وقيادة المؤسسات ان هناك، وبشكل دوري مستدام، اجتراحا لتقنيات وطرائق عمل جديدة، في شتى المجالات، من أساليب التسويق، الى الإدارة المالية، الى التعاطي مع الثقافة المؤسسية، الى إدارة التنمية ومشتقاتها، والدورة التدريبية اليوم تقع في هذه الخانة.

يجترح الابداع البشري يوميا، أساليب جديدة للتحايل على صعوبات الحياة والتغلب على التحديات، فيدخل في سباق تكنولوجي مع العقبات التي تنتصب بوجهه بشكل يومي او دوري، فيلجأ الى العلوم لكي يغرف منها حلولا لمشاكله، من هنا أتت تعابير تكنولوجيا، وهي تعني العلوم التطبيقية، وحلول (solutions)، أي وسيلة التغلب على التحديات. ولا بد لنا ان نذكر ان كلمة تقنية تعني في الأصل الفن، وكل العلوم كانت قد بدأت فنونا قبل ان تتمأسس.

بمعنى آخر، ان المساعدة الإنسانية، التي بدأت عفوية في التاريخ، والتي اعطتها العقيدة المسيحية قاعدتها الإلهية والقيمية، تتحول تدريجيا من عمل عاطفي عفوي يتوخى بعض الدراية المحدودة، الى عمل تكنولوجي متقدم يتحلى بأعلى معايير المعاينة، والأداء وتقييم هذا الأداء واستخلاص العبر منه، من هنا نشأت وظيفة ال (MEAL Monitoring, Evaluation, Accountability & Learning)   التي تضع الخدمات الإنسانية المقدمة، امام تحدي الفعالية والانجاز. المشاريع الإنسانية والتنموية وغيرها تخضع لدراسة جدوى مثلها مثل أي مشروع في مجال الاعمال. لا نكران ان العمل الاجتماعي كان يخضع في الماضي لمعايير علمية محترمة، ولكنه كان حكرا، ولفترة طويلة على الدارسين في اختصاصات الخدمة الاجتماعية، التي لم تتحول الى التكنولوجيا المتقدمة الا في العقدين الأخيرين، او قبلهما بقليل.

عند بداية القرن الحالي بدأنا نشهد في بلادنا برعمة اختصاصات مثل ريادة الاعمال في العمل الاجتماعي، او ال MBA   في إدارة الهيئات غير الحكومية، وما شابهها من الشهادات. الحق يقال ان الولايات المتحدة الأميركية، وهي بلاد الهيئات غير الحكومية بامتياز، حسب الكسيس دو توكفيل، كانت السباقة في هذا المجال وقد سنت، منذ ردح طويل من الزمن، قانون الشركة الاجتماعية (social business enterprise) فاتحة هكذا باب تطبيق عقلية الاعمال وريادتها في مجال التنمية والعمل الإنساني والثقافي والفني.

هذا التقدم في التكنولوجيا، هو إذا نتيجة تطبيق عقلية الفعالية الاقتصادية المخصصة لعالم الاعمال، في مجال العمل الاجتماعي او التنموي، اذ ان طبيعة التمويل قد تطورت تدريجيا، من التمويل التطوعي العفوي، مثل جمع الأموال في الرعايا، خلال الصلاة او بعدها في ندوة مخصصة لذلك، الى التمويل المنهجي المرتبط بالأعمال بشكل عضوي.

لقد وجدت الشركات التي تريد توظيف فائض ربحها في العمل الإنساني (humanitarian work) في تمويل الهيئات غير الحكومية، الدينية منها وغير الدينية، متنفسا مناسبا. هو وضع كلانا-رابحان (win-win situation). الشركات من جهتها تنزل شطور أرباحها، فتدفع ضرائب اقل وتجمل اسمها تجاه المساهمين او الشركاء او الزبائن، والهيئات الاهلية، من جهتها، تجد مصدرا يؤمن استدامة تمويلها.

ولكن هذا المسار يترافق مع تصاعد في فعالية الإدارة، لذلك انتقلت ذهنية الطرائق الفضلى في العمل من الشركات التي تتوخى الربح، الى تلك التي لا تتوخى الربح.

دورتكم هذه تأتي جزئيا في هذا السياق: حسن دراسة واستطلاع الميدان، حسن تحديد الحاجات والاولويات، وحسن كتابة دراسة الجدوى لمشروع يرد على هذه الأولويات، أي ال (proposal) وكتابته تزداد تعقيدا ودقة يوما بعد يوم، نظرا الى ان الممول المستتر (back donor) لديه شروط يريد ان يراها مطبقة ولا يريد ان يرى المال الذي حسمه من ربحه يذهب هدرا، حتى لو كان وراء ذلك تخفيض ضريبي. بفضل هذه القوانين، التي أساسها الولايات المتحدة الأمريكية، والممارسات التي افضت اليها هذه القوانين، تقدمت ثقافة المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة وأصبحت مفاعيلها تغطي جزءا كبيرا من الحياة الاقتصادية-الاجتماعية.

عند بدايات عملي في المجال التنموي، وكنت آنذاك آت من خلفية اقتصادية، تجافي الهدر بكل اشكاله، وتعتبره خطيئة، وتلتزم بالإدارة الرشيدة والفعالية العالية، وكان ذلك في نهاية السبعينات، فوجئت بالفارق بين العقليتين، عقلية حازمة في النتيجة الاقتصادية تحاسب على كل قرش يصرف، وعقلية سمحة مرنة من جهة الفعالية وتتسامح مع الهدر. لقد كانت ردت الفعل الأولى هي التالية: إذا حصلت معك خسائر في مجال الاعمال فإنك سوف تحاسب من رئيسك وقد تطرد من عملك، كما قد تصل الى الإفلاس إذا كنت مالك المؤسسة. اما إذا حصل معك نفس الامر في مجال العمل الإنساني، فإنك تستفيد من بعض التسامح كونه ليس هناك حساب أرباح وخسائر في نهاية العملية الاقتصادية. لقد كان هذا التفكير عند البعض خاطئا، اذ إنك اذا سمحت للهدر ان يتسلل الى عملياتك الإنسانية، فان عدد المستفيدين من مساعداتك سوف ينخفض. ان كل قرش مهدور، عمدا بسبب الفساد او عن خطأ بسبب نقص في الدراية، يعني ان بائسا إضافيا سوف يجوع، او مريضا إضافيا سوف يحرم من العلاج.

ان التقدم الرائع الذي حصل في هذا المضمار، اكان لجهة الفعالية ام لجهة الشفافية، قد وضع الأمور في نصابها، واسس لشراكة علمية بين المؤسسات التي تتوخى الربح وتلك التي لا تتوخاه.

هذه هي الإشكالية الأولى.

اما الإشكالية الثانية، فهي حول دور بيعة السيد في تضميد جراح المتعبين وثقيلي الاحمال.

هذا المتجسد العظيم، الذي اتى لخلاصنا، هو نفسه الذي كان يجوب ارض فلسطين، حيث تجسد، معالجا الناس من امراضها، كما من آفاتها وآثامها.

ان الحياة مادة وروح، وقول السيد ان مملكته ليست من هذا العالم قد اسيء فهمه او تأويله.

ان الانسان ملزم بالحفاظ على نفسه وعلى اسرته وعلى مجتمعه وعلى وطنه، كما على الجنس البشري، ما وجد الى ذلك سبيلا.

لقد بذل ابن الانسان نفسه للحفاظ على الانسان، فهل من الممكن الا يكون لبيعته دور في الحفاظ على ميراثه، هو الذي اتى لكي تكون لهم حياة وليكون لهم أفضل؟

لقد وعت الكنيسة هذا الدور الخطير منذ ان بناها السيد على الصخرة، واعطانا دمه وجسده للعهد الجديد، لذلك برت بهذا الدور وكانت تاريخيا وراء انشاء كل اشكال المساعدة الاجتماعية، وتطور هذا الدور الى ان أصبح تقنيا، حديثا، متقدما.

الجميع يعرف سير القديسين الذين عالجوا بني البشر، وآووهم، وامنوا لهم المأكل والمشرب والملبس، واسسوا المدارس المجانية، والمياتم، ودور العجزة، ومراكز ذوي الحاجات الخاصة، ولائحة ما ابتُدع بناء على الايمان المسيحي قد تطول. هي الكنيسة تجترح كل يوم الوسائل الناجعة لمعالجة بني البشر وتضميد جراحهم، وهي بذلك تسير على خطى المخلص الذي لم يترك جماعة مستضعفة الا وأوصانا بها.

ان الرحمة، المحبة التي بني عليها ايماننا، لا يمكن ان تتركنا غير مبالين بما يجري حولنا من مصائب وكوارث، على الصعيد الفردي، كما على الصعيد الجماعي، وفي الحرب كما في السلم، لذلك علينا ان نكون الأكثر استعدادا وفعالية في الرد على ما يمكن ان يحصل لبني البشر، وديعة السيد على الأرض.

ان التأملات الكتابية المدرجة في البرنامج، لا بد ان تشكل الخلفية الايمانية للعمل في المجال الإنساني، والتقنيات المدرجة تأتي تكملة وتجسيدا لها. لا بد للكنيسة، في حرصها على حسن استخدام فلس الارملة، ان تكون شديدة الحرص والفعالية في هذا المجال. إذا ؛كان سوء الأداء يحاسب بالطرد من العمل في المؤسسات التي تتوخى الربح، فانه يحاسب بوخز الضمير وبالخجل من الوقوف في حضرة الخالق في مؤسسات الكنيسة. إذا كانت الضوابط إدارية تنظيمية، خارج الكنيسة، وهي ضرورية، علينا ان نضيف اليها الرادع الايماني في العمل الإنساني ضمن الكنيسة.

ان الضمانة الأساسية للوصول الى الأهداف المنشودة في تأمين الأداء الأفضل، يكمن في امرين، التحصين الايماني والتدريب التقني. لا اقصد بتاتا ان المؤسسات غير الدينية تفتقر الى القيم، الا ان قيمها تكون جزئيا مختلفة وقد تحتوي على بعد ايماني الى حد ما، اذ ان الدين المسيحي قد شكل تاريخيا مخزونا قيما الهم ووجه البشرية بأسرها، خصوصا هذه المجتمعات التي انتجت كل ما تكلمنا عنه من تفان في خدمة الانسان، والفعالية والقيم التي ترافق هذه المبادئ الأساسية.

انكم، بما تقومون به في هذه الدورة، تطبقون مقولة ارنولد توينبي، جعل الاحسان علميا.

بارك الله بكم رسل محبة وخدمة، تبرون بما اوصانا به الرب.

Previous
Previous

مومنتوم، أسبوعيّة إلكترونيّة من مجلس كنائس الشرق الأوسط

Next
Next

من أجل إبقاء الذاكرة حية 2 – محاولة الإبادة السريانيّة