طرائق عمل الكنيسة في بناء السلام – 2

تعميم نموذج الكنيسة في بناء السلام

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

مكونات عمل الكنيسة في بناء السلام

 إن الكنيسة، باعتبارها منخرطة في بناء السلام على أساس ايماني، وكونها تشكل بيئة إيمانية إنسانية مجتمعية وتاريخية مستقرة، على المستويين الاجتماعي والتنظيمي، فإنها تعمد إلى التعامل مع بناء السلام في بعديه: العلاجي والوقائي.

ولكن لا يجوز للكنيسة أن تتجاهل حالات الصراع الطارئة، اذ عليها ان تتعامل معها مباشرة لأن آثارها قد تكون مدمرة. من شأن ذلك ان يوفر الكثير من الجهد للمستقبل إذا نجحت الكنيسة استباقيا في منع الضرر.

لكنها، في الوقت نفسه، مدعوة إلى النهج بمنطق بُعد النظر فيما يتعلق بالسلام المحلي أو الدولي. إن الفشل في القيام بذلك في الماضي كلف الكنيسة وجودها والكثير من مواردها في العديد من الأماكن حول العالم.

في سياق موازٍ، فان الكنيسة مدعوة، في بناء السلام، إلى استخدام ميزتين تفاضليتين، مما يعني أن طرائق عملها سوف تكون ثنائية الأبعاد:

 أولا عبر الكلمة: الكنيسة مدعوة الى استخدام "الكلمة": "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يوحنا 1: 1). الكلمة هي المجال الذي تكون فيه الكنيسة أقوى: الكلمة التي تشفي، والكلمة التي تطمئن، والكلمة التي تبارك، والكلمة التي تربي، على أساس "المحبة" في مفهومها المسيحي.

ثانيا عبر الممارسة: الطريقة التي تُعاش بها "الكلمة" في العالم. يشمل ذلك العمل على جميع المستويات الاجتماعية، من المعيشية إلى الطبية، إلى التعليمية، إلى المجالات التنموية. إنها الطريقة التي تتجسد بها "الكلمة" من خلال الممارسة التطبيقية.

ان المسيح الذي جاء لخلاصنا، أطعم الجياع، أعان المعوزين، شفى المرضى، حمى المستضعفين، علم الشعب، وأعاد الاعتبار للمرأة الزانية.

لقد تم تناول بُعد الكلمة، اللوغوس، في الجزء الأول من هذه المقالة. في هذا الجزء الثاني، نتناول البعد العملي لعمل الكنيسة.

التطبيق العملي: الانشطة المشتركة في المجتمع والثقافة

1-   تقديم المساعدات الاجتماعية الاغاثية من دون تمييز.

على صورة يسوع المسيح، وعلى مثال السامري الصالح، الكنيسة مدعوة إلى تقديم المساعدة الاجتماعية دون تمييز، وهذا ما تقوم به.

الحاجة ليس لها اسم، ولا مذهب، ولا هوية عرقية، أو سياسية، أو وطنية.

إن صورة الكنيسة التي تساعد جميع المحتاجين، بناءً على معايير الأولوية المحددة مسبقًا، هي صورة مثالية للإيمان المسيحي والسلوك الإنساني. ويمكن وضع مثل هذا السلوك كمثال لجميع أنواع المنظمات التي تعمل من منطلق ايماني في شتى أنحاء العالم. إن مثل هذا الموقف والسلوك يمثل تحديًا ضد التمييز والتعصب اللذين يدمران العالم.

2-   تنفيذ خطط التنمية مع مجموعات مستفيدة مختلطة.

تستفيد برامج التنمية من الاستدامة مقارنة بجهود الطوارئ والاغاثة. في مشاريع التنمية، يعمل الناس معًا لسنوات، وحتى لعقود، مما يسمح لهم بالتقارب، والتعرف على هويات و"ثقافات" بعضهم البعض جيدًا.

من شأن ذلك ان يقلل من الشعور بالغربة عند التعامل مع أشخاص لا ينتمون إلى نفس الفئة الاجتماعية.

في التنمية، سواء كانت مدينية أو ريفية، سواء كانت اجتماعية اقتصادية أو اجتماعية سياسية، فإن القضية المشتركة والتحديات والإنجاز أو النجاح، تقرب الناس من بعضهم البعض، وتشركهم في العمل الجماعي الذي يؤدي إلى الوحدة الاجتماعية، مفتاح السلام الاجتماعي.

في التنمية، تخلق القضية المشتركة هوية جديدة توحد الناس، دون دفعهم إلى إنكار هويتهم الأصلية.

3-   الشفاء من الصدمات والإرشاد الروحي (THSC Trauma Healing and Spiritual Counseling)

في المناطق التي تشهد نزاعات، وخاصة المسلحة منها، يحتاج السكان إلى هذا النوع من الأنشطة، ويمكن أن يتم ذلك أولاً على مستوى أبناء الرعية كما يمكن أن يشمل غير المسيحيين ايضا. إضافة الى ذلك، يمكن أن يستهدف هذا النشاط خدام الرعايا أولاً، ثم القيادات الدينية أو العرقية المحلية، المسيحية وغير المسيحية، أو أي نوع آخر من القيادات.

لقد اظهرت التجربة أن جلسة THSC يمكن أن تشمل أشخاصًا من هويات مختلفة، اذا كانوا قد عانوا من نفس الأحداث الصادمة، وكما هو الحال في حالة التنمية، يمكن للهوية المشتركة المرتبطة بالصدمات والتعامل معها، أن تحل محل الهويات المتناقضة.

نحو نموذج لبناء السلام في الكنيسة - معلمات النموذج

إن دور الكنيسة في بناء السلام لا يمكن أن يتحقق إلا إذا عاش المؤمنون السلام الداخلي المستقر الذي ينتج عن ايمانهم.

إضافة الى ذلك، يجب ألا يتعارض تدخل الكنيسة على المدى القصير مع تدخلها على المدى الطويل؛ بل على العكس، ينبغي أن يكون العمل في هذين التوجهين متكاملا.

بنفس المنطق، يجب أن يكون كل من الكلمة - اللوغوس والتطبيق العملي – البراكسيس، متلازمين، أحدهما يعبر عن المبادئ والقيم، والآخر يشكل تجسيدا لهذه المبادئ والقيم.

علاوة على ذلك، فإن بناء السلام يدور حول تغيير المواقف والقيم في المجتمع، عبر العمل على منظومة القيم المجتمعية، من خلال الكلمة والفعل. إن بناء السلام هو عملية تعليمية ينبغي أن تصل إلى جميع الناس، وعلى المدى الطويل.

في هذا السياق، الجدير ذكره هو أنه يجب أن يتم التعامل مع العناصر الخارجة عن سيطرة الكنيسة من قبل قيادات الكنيسة مع القادة المعنيين في المجتمع.

أصحاب المصلحة المنفذون لمسار بناء السلام في الكنيسة

أصحاب المصلحة المعنيون ببناء السلام هم المؤسسات الكنسية والأبرشيات والرعايا على المستويين الإقليمي والشعبي. وهذا يشمل أيضًا المؤسسات ذات الصلة بالكنيسة، سواء كانت مرتبطة بالتنمية، أو المرأة، أو الشباب، أو البيئة، أو أي تخصص آخر، تضاف اليها المؤسسات الكنسية أو المختلطة المتخصصة ببناء السلام، واتحادات الكنائس، حسب المنطقة أو العائلة اللاهوتية، ومجالس الكنائس، إضافة الى لجان وطنية أو محلية خاصة اسست لأغراض بناء السلام. كما ينبغي عدم تجاهل المبادرات المحلية لأنها يمكن أن تكون جزءًا من الشبكة، كما أن التشبيك ضروري لمثل هذه الأنواع من الأنشطة.

خلاصات

ينبغي للكنيسة، بحكم تاريخها وروحيتها وبنيتها وثقافتها، أن تكون جرس انذار مبكر للاتجاهات الضارة التي يمكن ان تنشأ في المجتمع، ومن بينها ظاهرة النزاعات.

علاوة على ذلك، يجب على الكنيسة أن تكون محفزاً للنضج المتبادل بين المجموعات المختلفة التي تشكل المجتمع. وهذا يؤدي إلى التقارب بين الناس الجماعات، فينتج عن ذلك نوع من التناضح الاجتماعي/التكافلي، الذي ينمي الانسجام في العلاقات بين الناس.

بهذا المعنى يبقى المسيحيون ملح الأرض، ولا يمكن لأي بيئة اجتماعية أخرى أن تقوم بهذا الدور كما تضطلع به الكنيسة، علما ان القيم المسيحية هي الضمانة لهذا الدور.

على الكنيسة أن تواجه تحدي بناء السلام، ومصدر الرد على العنف والحرب هو في الإيمان المسيحي.

إنه في الإنجيل، في الكتاب!

Previous
Previous

مومنتوم، أسبوعيّة إلكترونيّة من مجلس كنائس الشرق الأوسط

Next
Next

قبل أسابيع على رسامته الأسقفيّة، سيادة المطران ميشال جلخ في حديث خاصّ