ومضات نور من قلب العتمة
دروس من حرب لبنان
البروفسور د. ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
عاش لبنان، لمدة غير قصيرة، تجربة مرّة افضت الى سقوط الألاف من الضحايا، والى نزوح ربع الشعب اللبناني، وتدمير أكثر من خمسين ألف منزل، وعددا غير معروف من المؤسسات الإنتاجية، إضافة الى محو بعض القرى الجنوبية عن خريطة الوطن، ولو بشكل مؤقت.
في خضم هذه المحنة، اثبت اللبنانيون مرة أخرى، انه شعب يحب الحياة ويستحقها، وان تضامنه ووحدته الاجتماعية والوطنية هي اقوى من كل الرياح العاتية التي عصفت بالوطن.
ربع الشعب اللبناني الذي نزح، والذي هو في غالبيته الساحقة من لون طائفي معين، وجد افئدة دافئة تحتضنه في المناطق التي نزح اليها.
لقد كان الاستقبال الذي حظي به النازحون، والعناية والرعاية التي خصتهم بهما المجتمعات المضيفة، مثالية وتخطت كل التوقعات، وهذا ما كان ظاهرا خلال إقامة النازحين في مكان نزوحهم، كما عبر عنه أيضا العائدون، خلال يوم عودتهم الى احيائهم وقراهم.
لا بل نستطيع ان نقول أكثر من ذلك، اذ ان هذا النزوح وهذا الاحتضان، والمكوث حوالي شهرين في أماكن الاستضافة، قد ولدوا صداقات بفعل حسن المعاملة، وهذا ما عبر عنه أيضا النازحون يوم عودتهم، وهذا ما يؤسس للبنان الغد الذي يتفاعل ابناءه مع بعضهم البعض ضمن بوتقة الوطن.
خلال هذا النزوح، ظهرت جلية صورة اللبنانيين وقيمهم والرابط الابدي الذي يشدهم الى بعضهم البعض، هذا الرابط الذي يعود الى ألاف السنين، والذي لن تفككه قوة على وجه الأرض.
هذه أولى الومضات، اما ثانيها، فتتمثل بالعودة السريعة للنازحين حتى الى بيوتهم المسواة بالأرض.
عند الساعة الرابعة فجرا، توقيت دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، كانت ألاف العائلات النازحة قد وضبت امتعتها، وشدت رحالها، ميممة شطر حيها او قريتها.
لم تفكر هذه العائلات لا بالبيت المسوى بالأرض، ولا بالقرى التي جرف معظمها، ولا بالبنى التحتية المدمرة، ولا بأي عائق يحول دون عودتها الى عرينها، الى بيتها، الى كرامتها. هم مستعدون ان يفترشوا تراب وطنهم ويلتحفوا سماءه.
اشتاق النازحون الى قراهم، الى المناطق التي ولدوا وترعرعوا فيها، والتي تحتضن ذكرياتهم، فحزموا امتعتهم وساروا، على هدي رب رحيم وبحمايته، فهو مرجعهم وهو السند والعضد.
مشهد ألاف السيارات تملأ طرقات لبنان، من اقصى شماله وشرقه وغربه، متجهة نحو جنوبه وبقاعه وضواحي عاصمته، يخبر الناظر حكايات لا تسعها المجلدات، حكايات وفاء للوطن، حكايات تمسّك بالأرض، حكايات شغف بالحياة اليومية التي افتقدوها، حكايات عزة واباء، مفادها اننا لن نكون لاجئين في وطننا، وان نزوحنا القسري ليس سوى حادثة عابرة في تاريخنا الحديث. رغم العدوان والخطر ها انذا اعود الى بيتي، اكان سالما، ام بحاجة الى ترميم، ام مدمرا بالكامل. وجودي في المكان تكفيني غذاءً روحيا مدعما بالأمل الذي يأتي من ايمان بخالق لا يترك عباده. لقد جسد هؤلاء فعل القيامة بأبهى معانيها، وهذا ما يتجلى خصوصا عندما يتكلمون عمن رحل منهم عن هذه الدنيا.
من قلب عتمة لبنان، من قلب ظلمة الحرب الضروس التي تعرض لها، ما زال اللبنانيون قادرون على ارسال رسائل نور ورجاء الى العالم اجمع.
لقد شكلوا بذلك نموذجا يقتدى.