إفتتاحيّتان
1 - الطفولة والكرامة وتحديات المستقبل
2- التحصين المسكوني للمناطق المعرضة...بل للوطن
الطفولة والكرامة وتحديات المستقبل
ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ. عبس هذه الكلمة في الطاولة المستديرة الّتي عقدها مجلس كنائس الشرق الأوسط تحت عنوان "السياسات الحمائيّة من أجل كرامة الطفولة"، يوم الخميس 28 كانون الأوّل/ ديسمبر 2023.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
الأطفال الحديثي الوالدة المجهولي الابوين، التسرب المدرسي، أطفال الشوارع، عمالة الأطفال، سوء معاملة الأطفال، قتل الأطفال، تجارة الأطفال، واللائحة قد تطول، وهي ان دلت على شيء فهي تشير الى حجم التحديات والاعباء الملقاة على عاتق دولنا ومجتمعنا المدني من اجل ضبط وتصويب حالة الطفولة في منطقتنا.
تشير الإحصاءات، على كل الصعد، الى وجود مؤشرات خطيرة لا تبشر بمستقبل واعد لمجتمعاتنا، تقابلها مشاريع وبرامج ونشاطات ومؤسسات تهدف الى الرد على التحديات الماثلة امامنا.
قد يكون ما نصبو اليه جزءا يسيرا من المطلوب لكي نؤمن تأطيرا مناسبا لشريحة واسعة من اجيالنا القادمة، علما اننا لو امنا هذه الجزء نكون ما زلنا بعيدين عن تأمين متطلبات انتاج أجيال صاعدة سوية وقادرة على اخذ على عاتقها مستقبل مجتمع وتطلعات امة.
لقد وضعنا كل ذلك تحت عنوان كرامة الطفولة، علما ان هدف إعادة تأهيل راس المال الاجتماعي والكرامة الإنسانية يشكل جزءا أساسيا من توجهاتنا في مجلس كنائس الشرق الأوسط وهو، من منطلقنا الايماني والوطني والقيمي، حجر الزاوية في كل عمل تأهيلي تنموي.
لا نستطيع ان نقول، رغم كل الجهود المبذولة، ان حماية الطفولة المتوفرة في مجتمعاتنا كافية وتوصل الطفل الى شاطئ امان سن الرشد، دون ان يتعرض لشتى أنواع الازمات او المشاكل او الصعوبات، او كلها معاً. ان الذي تعيشه مجتمعاتنا، منذ أواسط القرن الماضي، قد أدى تدريجيا الى تراجع الكثير من البنى التنموية، او الى انهيار بعضها انهيارا شبه تام، بفعل الحروب وتفكك جزئي او كلي لبنى عدد من دول المنطقة.
ما كان منجزا، وثابتا، وفاعلا، اضحى هدفا نحاول العودة اليه، او الى بعض منه، ممارسين قناعة لا يمكن تصنيفها انها كنز لا يفنى، بل هي فن الممكن على ضوء الحالة التي وصلت اليها بلداننا وامكاناتنا التي تتراجع بشكل جذري وقدراتنا وكفاءاتنا التي تسير القهقرى.
إذا قارنا وضع الطفولة اليوم في بلاد العرب اوطاني، بما كانت عليه عند صدور اتفاقية حقوق الطفل وابرامها من دولنا، في بداية تسعينات القرن الماضي، نوقن كم تراجعت أحوالنا وكم ان مجتمعاتنا في خطر مستقبلي مصيري داهم، يزداد اذاه يوما بعد يوم.
حديثي الولادة المجهولي الابوين قد ازدادوا، والتسرب المدرسي في تصاعد مضطرد، وعمالة الأطفال حدث ولا حرج، وكذلك سوء المعاملة المنزلية والمدرسية والمؤسساتية للأطفال، وذلك رغم تقدم التنظيمات التي تعالج هذه الأمور وتفاني العدد الأكبر من القيمين عليها.
الازدياد السكاني من جهة، الحروب المدمرة من جهة أخرى، داخلية كانت ام خارجية، التراجع الاقتصادي أيضا، يضاف إليهم الاستلاب الثقافي الذي نخضع له، وتطور وسائل التواصل وسوء استعمالها، وتصاعد الفساد، والتفكك الاسري، والبطالة، وغير ذلك من الأسباب قد ادت الى ما نحن عليه اليوم.
ان بانوراما الطفولة في بلادنا لا تدفع لا الى السرور ولا الى الاطمئنان، لا الى الحاضر ولا الى المستقبل، اذ كلما نشط الناشطون والمعنيون في مجال الطفولة في انجاز ما يحميها ويؤمن لها مستقبلا أفضل – على الصعيد المايكرو – تأتي التحولات على الصعيد الماكرو وتطيح بكل ما انجز وذلك بشحطة قلم بالمعنى المجازي.
ان الاضطرابات التي تعيشها بلداننا، وانعدام الاستقرار، تشكل حجر العثرة الأكبر اما استتباب وضع الطفولة الذي يحدد مستقبل البلاد، من هنا نحيي كل المكافحين في مجال حماية الطفولة وتنميتها على استبسالهم فيما يقومون به رغم يقينهم انهم يعملون في محيط غير مستقر وافق غير واضح، يمكن ان يتسببا في اسقاط كل انجازاتهم وإعادة الامر الى المربع الأول.
هذه هي الندوة العشرين التي نعقدها حول الكرامة الإنسانية، وهي الندوة السادسة حول الطفولة، وهي تتوج الندوات الخمسة حول الطفولة التي سبقتها، كل ذلك من ضمن برنامج اشمل يهدف من ضمن ما يهدف، الى انتاج مؤشر للكرامة في بلادنا يعتمد من اجل تقييم وضع الكرامة الذي يختصر، واتجرأ ان أقول، يختزل، كل المؤشرات الاجتماعية.
الشكر لجميع من نظم وشارك في هذه الندوة. نحن معا نضع لبنة على طريق مستقبل لعله يكون أفضل للأجيال التي لم تولد بعد.
مجلس كنائس الشرق الأوسط، 28.12.2023
التحصين المسكوني للمناطق المعرضة...بل للوطن
ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ. عبس هذه الكلمة في الصلاة المسكونيّة الّتي أقامتها تيلي لوميار ونورسات على نيّة السلام في جنوب لبنان، يوم الأربعاء 27 كانون الأوّل/ ديسمبر 2023، في كنيسة مار مارون - البوشريّة، لبنان.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
هذا الوطن الصغير، الذي تتوق اليه كل المعمورة، والذي كانت تحسده معظم شعوب الارض، وقع منذ خمسة عقود في مستنقع الانقسامات والنزاعات والحروب الداخلية والخارجية، مع ما يرافق ذلك من تقهقر على الصعد عامة، القيمي والاقتصادي والاجتماعي، والسياسي طبعا.
هذا الوطن الصغير المترف، والذي يقول البعض ان ترفه كان اصطناعيا، وقد سموه المعجزة اللبنانية، فقد الكثير من قدراته، لكنه لم يفقد القه وتميزه كمنطقة حرة وكهمزة وصل بين الشرق والغرب.
جيلنا شهد عظمة لبنان، في ذروة تألقه، كما شهد انحداره الى جحيم الحرب الاهلية، وحروب الأخرين. جيلنا عاش حربا سميت حرب السنتين، ما لبثت ان تحولت الى حرب دامت عقدا ونصف. جيلنا رأى القتل على الهوية لشعب كان قد ادخل الطائفية في غيبوبة، وعاش التهجير والسرقة والحرق وتدمير البشر والحجر معا. من منكم يذكر لبنان بداية السبعينات، حيث كان قبلة انظار الغريب قبل القريب؟
الذين قتلوا لبنان آنذاك، قتلوا نموذجا كونيا تتوق اليه البشرية اليوم على ضوء الحراك الدولي للشعوب واختلاط الجنسيات والاعراق والاثنيات والأديان والانتماءات السياسية وغيرها من ابعاد التنوع والاختلاف. الذين قتلوا لبنان قتلوا الكون المصغر- المايكروكوسم – الذي تحتاجه الإنسانية، قبل ان تتحول في مختلف بلدان العالم نعمة التنوع الى نقمة النزاع. ظنوا انهم بذلك يقتلون لبنان الرسالة.
رغم كل ذلك، يبقى لبنان الوطن الرسالة، وتبقى عقيدة طائر الفينيق – العنقاء – فاعلة فينا، اذ ما زلنا نبعث من رمادنا من جديد عبر الشروع في اعمار ما دمرته قوى الغدر، وعَبَثُنا أحيانا.
اهلنا في الجنوب، الصامدون بكل المعاني، على حدود احتلال قابع على صدر شعب فلسطين منذ ثلاثة ارباع القرن، ويحاول التمدد أحيانا الينا، ويحاول السطو على بعض مما لنا، يمثلون المعجزة اللبنانية وعقيدة بعث الحياة من الرماد.
كم مرة، على مدى تاريخنا الحديث، عانى أهلنا في الجنوب من الحروب والتعديات والتدمير والتهجير، رغم صمودهم المقاوم، ومقاومتهم الصامتة في أكثر الأحيان؟
النزيف البشري الذي عانى منه الجنوب لم تعانيه اية منطقة أخرى مهما كانت مهملة، كما تشير الإحصاءات على مدى العقود الماضية. نعم، هناك من يصمد، مهما كانت التضحيات، وهناك من يقرر إعادة تنظيم حياته في منطقة أخرى، او يهاجر. وإذ به يحول هجرته الى صمود بشكل مختلف، عبر دعم من بقي وعبر الاعمار وتنمية المنطقة من انتاجه في الخارج، مقدمة لعودته، ولو بشكل متقطع.
انه الانتماء الى الأرض والوطن والتاريخ، الذين ترخص التضحيات امامهم. انها الجذور التي ترفض ان تقتلع، متشبثة بهوية لا يمكن استبدالها بشيء.
تاريخنا في مجلس كنائس الشرق الأوسط عريق في التضامن مع الجنوب، لا بل في دعم صموده الى اقصى الحدود وبكل ما اوتينا من إمكانيات.
خلال الحرب وبعدها كان للمجلس هناك كل أنواع المشاريع: من الإغاثة، الى اعمار الكنائس، الى تأهيل المؤسسات التربوية بعد اعمارها، الى دعم العمل الكنسي من فرق ترنيم ومدارس أحد، الى المشاريع الزراعية، الى الدعم المهني والانتاجي للحرفيين، الى الدعم الطبي بشتى الوسائل، وغيرها من مشاريع تفصيلية لا سبيل لعرضها هنا. ولكن بما ان الشيء بالشيء يذكر، لا بد لي ان اذكر ان كل مشاريع انتاج مياه الابار قد حوربت آنذاك بأشكال مختلفة مما انعكس سلبا على المشاريع الزراعية.
لقد كان هاجسنا امرين: الأول دعم الناس للبقاء في ارضهم، والثاني محاربة الشقاق الذي كانت تذره قوى الاحتلال بين أبناء الامة الواحدة.
اما اليوم، فان دعمنا للجنوب مستمر في السلم والحرب. مشاريع دعم حياتي وتنمية خلال فترة السلم، وعمل اغاثي خلال فترة الحرب كما يجري حاليا. ان فريقنا العامل في لبنان هو في جهوزية دائمة وحاضر للتدخل عند الضرورة وقد قام لتاريخه بواجبه الإنساني-الوطني على أكمل وجه.
رؤيتنا في العمل هو مقولة "حزمة العيدان"، ونرددها كلما وجدنا لذلك ضرورة، ومفادها ان "اما ان تكونوا رزمة واحدة مترابطة فتكونون عصيين على الكسر، او ان تكونوا عيدانا متفرقة فتكسرون عوداً عوداَ". الخيار لكم.
هذه القاعدة تنطبق على جميع مكونات شعبنا، بمختلف تركيباته، وليس لها من استثناء، وتطبيقها يكون ببث الوعي، والتضامن ونبذ الفرقة وعدم التمييز بين المواطنين. كل ذلك يبدأ بان يعمل كل مواطن على ذاته فيطهرها من الضغينة وابلسة الغير، على أساس اننا في مركب واحد ولا ينفع أحد الاختباء في مقصورته بينما المركب يغرق.
نتمنى ان تأخذ الدولة على عاتقها مبادرة التحصين، عبر الحملات المناسبة، التي لا تضع أعباء على الخزينة، لأن في غيابها تفكك فضياع.
نورسات، كنيسة مار مارون، 27.12.2023