قطع منا مرمية في الشارع
ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ. عبس هذه الكلمة خلال الندوة الشّهريّة الّتي نظّمها مجلس كنائس الشرق الأوسط عن بُعد تحت عنوان "الكرامة الإنسانيّة لحديثي الولادة المجهولي الوالدين"، يوم الخميس 31 آب/ أغسطس 2023. تأتي هذه الندوة في إطار سلسلة الندوات الشّهريّة الّتي كان مجلس كنائس الشرق الأوسط قد أطلقها، وضمن "مشروع الكرامة الإنسانيّة" - "الحوار والتماسك الإجتماعيّ - إعادة تأهيل رأس المال الإجتماعيّ".
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
أتوا الى حيث لا مكان لهم.
حلوا "ضيوفا ثقلاء" في مجتمع غير مهيئ لاستقبالهم.
هم نتيجة خطأ، او خطيئة، او جريمة، او أي سبب آخر!
"ليتهم لم يوجدوا"، يقولها من هم ليسوا مهيئين لاستقبالهم او من لم يكونوا يتوقعونهم.
لماذا اتيتم الى العالم يا أيها الأطفال "غير المرغوب فيكم؟"
بهكذا وضع وهكذا موقف وهكذا تفكير ينتهي الامر بحديثي الولادة الى الشارع، اما على تلة من القمامة ام على باب معبد او مؤسسة.
في الوقت الذي تنشط فيه مؤسسات العالم في الحفاظ على حقوق الطفل وتأمين المحيط المناسب له، نجد من يرمي بالأطفال في الشارع، تاركين إياهم امام المصير المجهول.
في الوقت الذي تُحرم فيه الكثير من العائلات من الأطفال، نجد الطائشين وعديمي المسؤولية يعيشون حالة "فائض الأطفال"، يتخلصون منهم بأبشع الوسائل.
هذه الظاهرة ليست جديدة في تاريخ الإنسانية، ولكن العجب انها ما زالت مستمرة، حتى اليوم، في بعض المجتمعات.
"لقطاء" سمتهم بعض دوائر النفوس، و"اولاد الزنى" او "أولاد الحرام" سمتهم بعض الدوائر الأخرى، واولاد غير شرعيين او مجهولي الابوين سماهم غيرها.
لا يهمنا من اين اتى هذا الطفل ذو البضعة ساعات او أيام من العمر، ولا كيف وصل الى حيث وجدناه. بل ما يهمنا انه، بمجرد خروجه الى العالم، أصبح كائنا اجتماعيا ذو حقوق اساسية اولها الهوية، تليها الحقوق الأخرى، المرتبطة جميعها بالرعاية العائلية والصحية والتربوية. لذلك يحق له – لا بل من واجب المجتمع - ان تُحفظ كرامته وحقوقه وان لا يدفع ثمن أخطاء من جلبوه الى العالم. لا يمكنني ان احمله وزر أخطاء ارتكبت عندما كان لا يزال في العدم.
هل من الضروري ان نحمّله قول فيلسوف المعرة ان "هذا ما جناه ابي علي ولم اجنِ على أحد؟
ولدٌ مرمي في الشارع هو المؤشر ان المنظومة الاجتماعية برمتها لا تعمل. لا حماية ولا توعية الناس مؤَمنتين، ولا رعاية الفتيات الضحايا مؤَمنة، ولا التشريع اللازم مؤَمن، ولا حتى التوعية الاجتماعية مؤَمنة، تفادياً لان تُكال للفتاة الضحية كل اشكال التهم والاحكام.
لا نتوق لان نصبح مجتمعا يتماهى مع ما يجري في مجتمعات أخرى، ننجب اولادا خارج إطار العائلة، لان العائلة هي الخلية المجتمعية النواة والغاؤها يعني تفكيك المجتمع، ولكن يجب ان نتوقع أخطاء ناتجة عن طيش أو قلة تقدير او غش، وان نكون قادرين على التعامل معها.
هنا لا بد لنا من التركيز على دور الدولة، لان الهيئات غير الحكومية التي تتعاطى بشؤون هؤلاء الأطفال، وجلها من الهيئات الدينية، لا تستطيع حمل وزر هذه الظاهرة وحدها. ظاهرة الأولاد المجهولي الابوين أكبر من قدرات مجموعة من المؤسسات التي تتعاطى مع المشكلة وتقوم بالخدمة بكل ما اوتيت من طاقة.
تحتل الطفولة مكانة مميزة في العقيدة المسيحية، تتجسد في اقوال وتصرفات السيد المتجسد بما يتعلق بالصغار، اذ ورد على لسانه ان "من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى، ويغرق في لجة البحر"، كما قال " إنه ليست مشيئة أبيكم الذي في السماوات ان يهلك أحد هؤلاء الصغار".
كما ملّك السيد الأطفال على ملكوت السماوات حين قال: "أما قرأتم قط إنه من أفواه الأطفال والرضّع هيّأت تسبيحًا" و "دَعُوا الأَوْلاَدَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلاَ تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هؤُلاَءِ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ".
اما على الصعيد السلوكي فقد شدد الرب المتجسد على رعاية الأطفال ومحبتهم وحمايتهم حين قال: "انظروا، لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار"، لا بل ذهب ابعد حيث حذّر: "كل ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار فلي قد فعلتموه".
لقد برت الكنيسة بوصايا السيد حول الطفولة وقد الهمت بذلك الكثير من الدول في تشريعاتها وسياساتها الاجتماعية، كما الهمت قيادات روحيين كثر في تأسيس الجمعيات التي تعنى بالطفولة، خصوصا المعذبة منها، رغم الكثير من الهفوات التي تصل الى حد الجريمة والناتجة عن ضعف بشري لا يمس الأساس فيما قد انجزه ولا نبل عمل من أحسنوا الفعل.
ان الطفولة هي الخط الأحمر الأساس في أي مجتمع يريد ان ينتج راشدين سويين، ويريد ان يؤمن مستقبلا أفضل لأجياله التي ولدت والتي لم تولد بعد. اما الطفولة الضحية فهي تستحق اهتماما أكثر نظرا لوضعها المعرض والضعيف.
هذا تحد آخر نطرحه امام الباحثين المعنيين، وهم العارفون بخفايا الأمور، وعبرهم الى المجتمع والدولة، أن احموا ضعفائكم وأن لا تحملوهم ما ليس من مسؤوليتهم وتذكّروا القول الكريم ان "لا تزر وازرة وزر أخرى".