أيها الصليب المقدس
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
تحيي الكنيسة عيد رفع الصليب المحيي في الرابع عشر من شهر أيلول/سبتمبر، أي في نهاية الرحلة الأربعينيّة التي تبدأ في عيد التجلّي إلى نهايتها، في تأكيد لمحبّة الله للبشر، الى حد التجسّد والصلب كفّارة عن ذنوبنا.
أيها الصليب المحيي،
انت الذي حملك السيد المتجسد على منكبيه وسار بك طريق الجلجلة بعزمِ من حمل على عاتقه تخليص المخلوق البشري من آثامه، مكللاً بالشوك، لابساً ثوب السخرية والهوان،
عليك سُمّر الفادي ورُفع الى العلى، وهُزء وطُعن واُسقي المر،
عليك عبّر الفادي عن ذروة محبته للبشر وتسامحه،
عليك لفظ الفادي كلماته التي تمجدها الأجيال حتى اليوم، من الأولى، " اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23: 34) الى السابعة، " يا أبتاه، في يديك أستودع روحي" (لوقا 23: 46)، وسوف تمجدها حتى انقضاء الدهر،
عليك رُفع ابن الأنسان وعلموا أنه هو، هو الذي شهدوا ضده زوراً، والذي بيع بثلاثين من الفضة، والذي على ثوبه اقترعوا،
عليك تم كل شيء ومرت الساعات وتحققت النبوءات،
عليك اعطى المعلم دروسا لأجيال لم تولد بعد، حيث سار بعدها المسيحيون الشهداء بفرح عظيم على خطى المسيح، صفوفاً متراصة وهم يرنمون بخشوع، فدخلوا السجون واُطعموا للأسود وعيونهم شاخصة الى السماء وهم يطلبون الرحمة لأعدائهم،
عليك جسد السيد قوله ان ليس للإنسان حب أعظم من أن يبذل نفسه عن أحباءه،
من عليك انزل يوسف الرامي إله شقائق النعمان، وكفنه ووضعه حيث تحققت القيامة،
أيها الصليب الرمز،
لقد اصبحت صفة شخصية ملازمة ليسوع المسيح كما يعرّفه الملاك لمريم المجدلية "اني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب" (متى5:28)، وكما يكرز به بولس الرسول: "نحن نكرز بالمسيح مصلوباً" (1كورنثوس 23:1)،
لذلك فقد استمد الصليب عند المسيحيين رمزيته الدينيٍّة المقدسة، كما رمزيته الإنسانية، من كونه وسيلة موت السيد من اجل خلاص الانسان وتحريره من عبئ الخطيئة، فأضحى بذلك وسيلة خلاص وانعتاق للبشرية،
الصليب إذاً، رمز آلام السيد المسيح ونكرانه لذاته وعذابه الجسدي قبل موته وقيامته، وهو بذلك رمز الفداء والخلاص،
هو ايضاً رمز المسيح المنتصر على الفناء، لذلك أصبح مفتاح الحياة ورمزُ الحياة الأبدية،
أيها الصليب الرفيق، الملازم لحياتنا اليومية،
لقد أصبحت جزءا من معاناة الانسان في يومياته،
انت واقع حياة كل واحد منا،
المحافظ على وصايا الرب يحمل صليبه في زمن بات فيه النفاق والتجذيف على الروح قاعدة العلاقات بين الناس،
الاِنسان الذي خلقه الرب كائنا حرا يحمل صليب الحرية،
الناطق بالحق الذي يرفض ان يكون شاهد زور او شيطانا اخرس مقابل الظلم والسقوط الاجتماعي، يحمل صليب العدالة،
الذي تتراكم في حياته المشاكل والمصائب والضيق والألم يحمل صليب المعاناة،
نحن، في حياتنا اليومية، نحمل صليبنا ونتبعه، بملء اردتنا، الحرة، الواعية،
الصليب المقدس يرافق حياتنا اليومية حيث نرسم علامته في شتى الأوقات، في الفرح والترح وعند الشعور بالخطر وعند شكر الرب على عطاياه، وهو بذلك جزء من هويتنا الشخصية والاجتماعية والثقافية،
أيها الصليب قاهر الهاوية،
لقد حررتنا من بؤسنا وجعلتنا ننتصر على ذاتنا وفتحت لنا أبواب الملكوت،
عبرك قد ظهر الخلاص لبني البشر، وهُزمت الخطيئة وسار الانسان على درب الغفران،
عبر موته وقيامته، وجسده المكسور ودمه المراق للعهد الجديد، اعطى السيد المتجسد العالم حياةً جديدة لكل من اعتنق ايمانه وسار بهدي تعاليمه،
نحن الذين اخترنا أن نحيا ايمان وقيم السيد المتجسد العصي على الفناء، قادرون ان نقهر الشيطان الساكن في عقول البشر والمتغلغل في نفوسهم، وان نتحمل من اجل ذلك صروف الاضطهاد والابلسة ونحن موقنون تماما ان "جميعُ الذين يُريدون أن يَحيوا بالتّقوى في المسيح يسوع يُضطَهَدون" (2 تيموثاوس 3/12).
مباركة انت يا هيلانة، ومبارك قدومك الى الأرض المقدَّسة باحثة عن عود الصليب،
مباركون هم الذين ارشدوك الى المكان الصحيح ومباركة جهود العمال المضنية ومبارك صبركم خلال البحث الطويل،
لم ينفع القتلة طمر الصليب تحت الردم، كما لم ينفع طمر الشهداء الذين دعوا مسيحيين أولا في انطاكية،
النيران التي اُشعلت يومها ايذاناً بالعثور على الصليب ما زالت متوهجة تنير العالم، وهي تقول ان الشعلة سوف تبقى على قمم الجبال، تنذر البشرية ان الشر ما زال يفعل فعله ببني البشر وان ايماننا هو حرب على الشر بالمحبة،
الصليب، الذي كان آنذاك أداةَ التعذيب والقتل للمجرمين وقطاع الطرق، "ملعون مَن عُلِّقَ على خشبة" – (تثنية الاشتراع 21: 23)، وكان رمز اللعنة، أصبح عبر تعاليم السيد المتجسد العصي على الفناء، رمز المحبة والغفران.
هذا التحدي الذي تطرحه المسيحية للبشرية، نلخصه ببعض ما قاله السيد في الموعظة على الجبل: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،" (مت 5: 44).
هل للبشرية التي يجتاحها الشر اليوم اذنان كي تسمع؟