اللجوء والتهميش تحت مجهر العدالة والايمان

أُلقيت هذه الكلمة خلال الطاولة المستديرة الّتي نظّمها مجلس كنائس الشرق الأوسط تحت عنوان "الكرامة الإنسانيّة واللّاجئون الفلسطينيّون"، يوم الخميس 27 تمّوز/ يوليو 2023، في مقرّ الأمانة العامة للمجلس في بيروت. تأتي هذه الندوة في إطار سلسلة الندوات الشّهريّة الّتي كان مجلس كنائس الشرق الأوسط قد أطلقها، وضمن "مشروع الكرامة الإنسانيّة" - "الحوار والتماسك الإجتماعيّ - إعادة تأهيل رأس المال الإجتماعيّ".

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

ان تعيش على ارض وبين أناس في مجتمع يضع عليك القيود التي تهمشك وترميك في الفقر وتقطع عليك أمالك وتمنع عنك تطلعاتك، فهذه ذروة القتل الاجتماعي الرحيم.

منذ وطأت ارض المشرق الانطاكي جحافل المستعمرين وقسموه الى كيانات مستضعفة، مرورا بوعد ارضي مستند على وعد سماه الهي، قطعه من لا يملك الى من لا يستحق وقسم عبره ارض فلسطين وشرد أهلها ، مرورا بحرب لبنان التي شردت اقل من نصف شعبه بقليل، وصولا الى حرب العراق المبنية على تفادي سبي بابل ثانٍ غلفوه بريبة وجود النووي وإرساء ديموقراطية الشركات العملاقة، وانتهاء بحرب الشام التي توخوا عبرها ادماجها بخريف عربي مقنع بالربيع على يد من خرج لتوه من ادغال الظلامية والجهل، المسار واحد: ضياع حضارة، تفكك اجتماعي، تشرد ولجوء وتهميش مهني واقتصادي، يؤدون الى ضياع حياة الضحايا ورميها في أتون الهجرة والبؤس.

ان الخطة واضحة لمن يجيد قراءة التاريخ من منطلق تحليلي وحتى من منطلق تاريخاني.

فلسطين كانت النموذج الأول، الناجح جدا، تبعته نماذج مشابهة طبقت عند جيرانها مع متغيرات تأخذ بعين الاعتبار متطلبات المكان والزمان.

في مجلس كنائس الشرق الاوسط تعاملنا خلال هذه الحروب مع المشرد الفلسطيني، الذي تكرموا عليه بلقب لاجئ، في شتى مخيمات اللجوء وكانت مؤسستنا السباقة في خدمة هؤلاء المشردين، حتى ان تأسيس الدوائر التي تعنى بشؤونهم جاء قبل تأسيس المجلس بسنوات، وقد ابلت فرقنا العاملة في بيروت وعمان والناصرة والقدس وغزة البلاء الحسن، وهي ما زالت ناشطة حتى اليوم، تسعى الى التعامل مع الحاجات المتجددة لشعبنا الفلسطيني بأفضل ما يمكن. سوف يفيدنا مديرها لربع قرن، الحاضر ههنا بيننا، بما يغني الندوة بالمعطيات القيمة.

خلال الحرب اللبنانية، وكنت آنذاك مديرا لبرامج الإغاثة والتنمية في لبنان طيلة عقد الثمانينات تقريبا، تعاملت مع المخيمات الفلسطينية من نهر البارد الى البص، مرورا بصبرا وشاتيلا وعين الحلوة والميه وميه، وشاهدت ما شاهدته من أوضاع إنسانية لا يقبل بها بشري.

هذه الاسرة الدولية التي اغدقت وطن هؤلاء الناس على مستوطنين أتوا من كافة اصقاع المعمورة، أهذا هو كل ما لديها ان تقدمه لهؤلاء؟

إذا كانت سخرية القدر تقتضي بان يجري التعويض على المتضرر، فمن أضعف الايمان ان يكون التعويض متناسبا مع الخسارة، واقولها بصفراوية.

عندما توغلت أكثر في الواقع الفلسطيني في لبنان، ولا اعرف الكثير عن القوانين والأنظمة التي ترعاهم في سائر الدول العربية، ازددت ذهولا وخيبة.

لا اقصد تحميل لبنان أكثر مما يمكنه تحمله، وهو أكثر المجتمعات العربية تقديما للتضحيات من اجل القضايا العادلة، العربية منها والعالمية، وهو موئل الحريات، وهو الذي يتقبل ما لا تتقبله اية دولة أخرى، لا في الشرق ولا في الغرب، ولكن المنطق والعدالة يمليان ان تكون السياسات المعتمدة مع حالات اللجوء مبنية على التجانس وبعد النظر.

ان تحول المخيمات الى بؤر بؤس فهذا يعني إنك تحولها الى قنابل موقوتة سوف تستقطب كل المهمشين في البلاد، وما اكثرهم في نظام قائم على الاقطاع المالي والسياسي، ولا يفقه من العدالة الاجتماعية-الاقتصادية شيئا.

وهكذا كان، وهذه هي الحال اليوم، اذ يظهر الواقع ان المخيمات، في لبنان على الأقل، ما زالت على حالها، ويتعايش فيها أناس من جنسيات مختلفة ولكن بأوضاع اقتصادية-اجتماعية متشابهة.

لن ادخل في الإحصاءات ولا المعطيات التفصيلية لما أتقدم به، اذ ان المتداخلين الكرام سوف يتطرقون الى ذلك بما فيه الكفاية، ولكن أرى ان اعبر عن ضرورة محاربة التهميش القانوني والمهني والاقتصادي، وتاليا الاجتماعي، للمواطنين غير المحظيين كما للمشردين واللاجئين، واعطاءهم فرصا متساوية في شتى شؤون الحياة لكي يعيشوا بشكل سوي يجعلهم يحترمون أنظمة وقوانين هذه الدولة التي ترعاهم، لان التجاهل يصبح في النهاية متبادلا بين الدولة والذين تهمشهم. لا بد لنا من ان نؤكد هنا ان لا آثار سلبية للسياسات العادلة لا على سوق العمل ولا على توزيع الثروة في البلد المضيف. ان العدالة بحد ذاتها هي ضمانة.

لكل مقيم على ارض، بشكل شرعي، كل حقوق وواجبات اهل الأرض، وما عدا ذلك يكون تمييزا عنصريا لا يؤدي الا الى رفع مستوى العداء ورفض القانون للمهمشين، وهذا ينطبق أيضا على سكان البلاد.

ان حق ممارسة المهنة والسكن وغيرها من الحقوق الاساسية هي عناصر استقرار للإنسان، فهل نظن اننا نحمي وطننا إذا نزعناها منه؟

لا يسعني في ختام كلمتي، الا ان اذكر بقول السيد المتجسد "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ." مت 11: 28)

كما اذكر انه كان يطعم الجياع كما انه كان يوآزرهم بالطعام الروحي ولذلك يوصي المؤمنين بإضافة الغرباء وانصافهم (رو 12: 13؛ 1 تي 3: 2؛ 5: 10؛ 1 بط 4: 9).

فهل نستطيع نحن ان ننهج بغير ذلك؟    

Previous
Previous

أنتَ الآنَ لا تَفهَمُ ما أنا أعمَلُ، ولكنّكَ ستَفهَمُهُ فيما بَعدُ

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يدعوكم إلى ندوته الشّهريّة الجديدة عن بُعد