الحوار المقطوع والمجتمع التائه...والمسكونية

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

أطلق وزيرا الاتصالات والاعلام في حكومة تصريف الأعمال في لبنان، اليوم، حملة "خلينا نتحاور" وذلك، حسب قولهم، بمناسبة "اليوم العالمي للحوار" الذي يصدف اليوم 12 تموز/يوليو، من أجل تشجيع الحوار والتواصل بين اللبنانيين. وفي هذه المناسبة قدمت وزارة الاتصالات فترات تواصل مجانية على شبكتي الخلوي والانترنت خلال شهر تموز. اما هدف هذه الحملة فهو، حسب الوزراء المعنيين، تشجيع الحوار والتواصل بين اللبنانيين.

اما اللافت في هذه الحملة، التي نعتبرها عملاً محموداً ومستحباً، فهو التركيز على الحوار بين الذين تزعموا مجموعات الشعب اللبناني المتنافرة بسببهم، وتسببوا بخراب هذا الشعب وضياع مستقبل شبابه وهجرتهم. الشعارات التي قُدمت مضحكة اذ تحث السياسيين، المتخاصمين في العلن، والمتحالفين في الخفاء، على التحدث مع بعضهم البعض عبر اعلان ارقام هواتفهم للعموم.

وفي اتصال أجرته احدى وكالات الانباء الشهيرة بوزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال أكد لها أنّ هذه الحملة استهدفت الشخصيات السياسية ذات التأثير الشعبي العالي والتي بينها تنافر وتباعد.  كما شدّد الوزير على أنّه ليس للحملة أية اهداف سياسية بل هي بمثابة رسالة إيجابية لحث اللبنانيين على الحوار. كما أضاف الوزير ان اعتماد أسماء السياسيين جاء لأنه يعتبر "أن غالبية الشعب اللبناني "مسيّس"، على حد قوله، متأملا التوصل الى عقد حوار جامع بين كافة القوى السياسية في لبنان، عبر احداث صدمة إيجابية على صعيد التواصل والحوار. وختم بالقول ان الحوار على جميع المستويات هو الحل الناجع للمشاكل التي يعاني منها لبنان.

لا شك ان مبادرة الوزارتين جيدة، وقد تؤتي ثمارها، على المدى القصير جدا طبعا، ولكن المسألة اعمق واعقد من ذلك بكثير، ولا حل لها الا بخطة طويلة الأمد تشرف عليها الدولة، المؤسسة الوحيدة الناظمة لطاقات الشعب وقدراته. كما لا بد ان تشمل هذه الخطة الابعاد التشريعية والتربوية والسياسية والإعلامية.

الحوار هو الوسيلة الوحيدة التي تجمع بين الناس وترفع مستوى التفاعل بينهم وتسير بهم نحو وحدة الروح والاهداف والتجانس الثقافي. الحوار هو فتح القلوب قبل العقول بين الناس، ووضعهم في حالة تقبل لبعضهم البعض، كمقدمة لتقدير قيم وتطلعات بعضهم البعض.

ولكن الحوار لا يمكن ان يكون نخبويا فحسب. ان بقاء الحوار على مستوى النخب هو اشد خطرا من انعدام الحوار لان ذلك سوف يعني ان الشعب يتوحد ويتألف عندما تتحاور النخب، ويتخاصم، وقد يقتتل، عندما تتنابذ النخب. هذا ما يسميه القول الشعبي العربي "ان الناس على دين ملوكهم" وهذه أخطر خصائص البنية الاجتماعية.

ان الحوار الفعلي والفعال هو الذي يقوم بين الناس، على مستوى المجتمعات المحلية وفي الحياة اليومية، اكان في مجال العمل او في أي مجال او نشاط آخر.

ان الاشتراك في الحياة هو الحوار الفعلي الذي يؤدي الى ما اسميه " التناضج"، أي التفاعل المتقدم والعميق بين الناس، الذي يجعلهم حاملين لتطلعات وقيم مشتركة، أي ثقافة مشتركة، دون ان يؤدي ذلك الى الاستنساخ بينهم.

اما الشركاء في الحوار-التفاعل الذي يؤدي الى التناضج، أي ما يسمون بالإنكليزية ال (stakeholders) فهم عديدون ومسؤوليتهم في الحوار تختلف حسب موقعهم وقدراتهم الإنسانية والمادية.

قلنا ان الشريك الأساسي هو الدولة، عبر تأمينها للسلم الأهلي ولفرص العمل ولحسن توزيع الدخل، عبر سياسة ضريبية عادلة، كما عبر مراقبتها لمحتوى البرامج التربوية وعبر التشريع الذي يكفل السلام الاجتماعي والحوار. نستطيع ان نضع في خانة الدولة، الأحزاب والنقابات على اعتبار انها هيئات معنية بالشأن العام ولا تصنف ضمن المجتمع المدني، وانما ضمن المجتمع السياسي.

ام الشريك الأخر، والذي لا يقل أهمية عن الدولة، فهو المجتمع المدني او الأهلي، أي الجمعيات العاملة على الأرض والتي تتفاعل مع عامة الناس، من كافة انتماءاتهم الدينية والعرقية والطبقية، في الريف كما في المدينة، كما في الضواحي التي تشكل في اغلب الأحيان احزمة بؤس في العالم النامي.

ان النشاطات التي تقوم بها هذه الهيئات غير الحكومية من شأنها ان تقوي التفاعل بين الناس، أي الحوار، عبر المشاريع المشتركة والإنجازات التي يكون الجميع شركاء فيها.

في هذا السياق، يشكل مجلس كنائس الشرق الأوسط، كما الكنائس التي يتألف منها، موئل حوار بامتياز وقد قام بهذا الدور منذ تأسيسه منذ خمسين عاما اذ شكل بداية إطار حوار بين الكنائس، ثم انتقل الى دور الحوار بين المسيحيين وغير المسيحيين، وهو مؤسسة فاعلة جدا في هذا المجال، اذ يعتبره شركاؤنا في الوطن من غير المسيحيين محاورا شريفا وشريكا مسؤولا في مسار الحياة العامة ومصير الوطن.

ان اعمال الإغاثة، كما اعمال الخدمة الاجتماعية والتنمية، كما برامج التدريب والتوعية، كما برامج التثقيف، كما برامج الحوار، تشكل جميعها وسائل تقارب بين الناس، وحوار وتفاعل. ليس الحوار فقط الجلوس وجها الى وجه والتكلم حول ما يجمعنا، بل هو أيضا العمل معا من اجل مستقبل مشترك أفضل لأجيالنا الحالية والقادمة.

ان ندوات الكرامة الإنسانية التي نعقدها شهريا، نظرا لمواضيعها ولهويات المشتركين فيها، تظهر كم ان المجلس يعتبر مؤسسة ضاربة في عمق مجتمعات الشرق الأوسط، لها جذورها وامتداداتها ومريديها والمنتمين الى ثقافتها من شتى الانتماءات الاثنية والدينية.

هذه سياسة عملنا القائم على ما اسميه "الحوار العميق" الذي يقرب بين الناس على المستوى الشعبي والمحلي والذي هو الضامن الوحيد لغد أفضل.

مسكونيتنا ليست فقط في العلاقة بين المسيحيين، بل هي في العلاقة بين كافة سكان المسكونة.

لذلك نحن مسكونيون!  

Previous
Previous

لتكن محبتكم صادقة

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يهنّئ قداسة الكاثوليكوس آرام الأوّل