الدين: موقعه ودوره في تنظيم الحياة والمجتمع

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

ليس في علم الاجتماع ظاهرة أصعب للتعريف من الظاهرة الدينية نظرا للمسار التاريخي الذي سارت فيه، ونظرا لتنوع المذاهب الدينية وتشعبها، خصوصا انها تتعاطى مع المقدس، الخالق الذي ننسب اليه كل شيء، من الازل والى الابد.

منذ ان بدأ الانسان يدرك الظواهر الطبيعية والحياتية، بدأ يتكون لديه قلق مبني على التجارب التي عاشها والتي اختزنتها ذاكرته، فدخل في نفق انعدام الأمان، مما جعله في حالة بحث دائم عن هذا الأمان ولمّا يزل حتى اليوم.

لقد اخافت الانسان الأول الظواهر الطبيعية والممارسات البشرية على حد سواء، فأخذ يبحث عن الوسائل الفضلى لحماية وتحصين نفسه منها، وطفق يجترح المعتقدات والاساطير في محاولة منه لفهم ما يجري حوله والعثور على السبيل لحماية نفسه من الاحداث او تبعاتها. فكانت المعتقدات الطوطمية ومعتقدات التناسخ وكانت الاساطير وفي وقت متقدم ظهرت الوثنية التي استقرت البشرية عليها لحقبات طويلة من الزمن حتى ظهور ما اصطُلح على تسميته الديانات التوحيدية.

يورد الباحثان العراقيان فرحان وعبد في كتابهما "دور الآلهة والكهنة في طرد الشر والشيطان في العراق القديم" ان سكان بلاد الرافدين كانوا يعتقدون "ان الاشياء تتحرك حركة ذاتية، فالإنسان كان يرى نفسه محاطا بقوى كانت بالنسبة اليه اما الهة او عفاريت، اي ان السماء والارض كانت مليئة بعدد لا يحصى من الأرواح" ويعتبران ان السومريين "هم اول من تصوروا بأن هنالك مجموعة كبيرة من الكائنات فوق طاقة البشر" وانه "كان على الانسان ان يخشاها ويعمل على استرضاءها بوساطة القرابين". ويضيفان ان البعض كان يعتقد "ان الاشرار من الجن والارواح كانوا ابناء الالهة الشريرة القديمة وهذه الاشكال تم إعطاؤها [تمت نسبتها] للقوى الخارقة للطبيعة وتشمل المرض المفاجئ والالم والحالات الاخرى المخيفة" كما كان هؤلاء يعتبرون ان "الاخيار من الجن والارواح فهم ابناء كبار الالهة".

هذا نموذج من المحاولات الأولى لاكتشاف قوى الطبيعة الخارقة وفهم الماوراء وما يجري في الحياة والكون، وهي ان تدل على شيء، إضافة الى بدائية الوحي، فإنها تشير الى كمية الشعور بانعدام الأمان والخوف والجهل.

خلال حقبات طويلة من الزمن، الذي لا سبيل للدخول في عرضها وتحليلها هنا، شغلت مسألة الخلق والخليقة والمصير، الانسان منذ ان بدأ يعي وجوده ويحاول موضعة نفسه في المنظومة الكونية على قدر ادراكه. لقد تطور الوحي والتجلي الالهيين عند الشعوب، تبعا لمستوى تقدمها الثقافي والروحي، فاجترحت كل حضارة رؤيتها الخاصة للخالق وللخليقة وتجسدت هذه الرؤية بأشكال شتى، حتى وصلنا الى حقبة التوحيد.

هنا بدأ زمن طرح مختلف للأسئلة الكبرى التي حاول الانسان الإجابة عليها، واتت الأديان التوحيدية تعلن حصرية إعطاء الأجوبة، وتطرح على الانسان منظومة ايمانية متكاملة من شأنها تأويل كل ما يعيشه من ظواهر، وإعطاء الحلول الأنية او الأبدية لكل المشاكل والأزمات، وحتى الكوارث، التي يعيشها هذا المخلوق الضائع في كون لا يعرف له لا بداية ولا نهاية.

لا شك ان التحليل الحديث للظاهرة الدينية بدأ مع بدايات علم الاجتماع، بعد نهاية الثورة الصناعية، وظهور ملامح العالم الحديث حيث يجرى اعتماد العلم، ولاحقا القياس، من اجل تحليل الظواهر.

في كتابه المقدس والدنس، لاحظ ميرسيا إلياد أنه، في حين ان الانسان المعاصر يعتقد أن عالمه دنس أو علماني تمامًا، إلا أنه ما زال في بعض الأحيان يجد نفسه منقادا، من حيث لا يدري -او باللاإرادي، الى المقدس.

عند الياد أيضا يشير تعبير الإنسان المتدين (homo religiosus) إلى فكرة أن الوجود البشري ديني بطبيعته، وهو المصطلح اللاتيني للشخصية المتدينة، أي الشخص الذي يكون سلوكه وفكره مدفوعين تمامًا بالأفكار والدوافع الدينية.

إن التدين المتأصل لا يعود الى المعتقد أو الانتماء المؤسسي للإنسان في حد ذاته، ولكنه يشير إلى نزعتنا الوجودية نحو التسامي والحرية وصناعة المعنى، مهما كانت خلفياتنا الدينية أو اللا- دينية أو قناعاتنا الاجتماعية.

هل يعتبر البشر مخلوقات متدينة؟

الإنسان العاقل هو إنسان متدين. بمجرد أن أصبحنا بشرًا مدركين لإنسانيتنا، نبدأ بالبحث عن الدين لاننا مخلوقات تبحث عن المعنى.

لا بد لنا من ان نقر، كباحثين في علم الاجتماع، أن الدين موجود كمجموعة منظمة ومتكاملة من المعتقدات والسلوكيات والمعايير التي تركز على الاحتياجات الروحية والقيم الاجتماعية الأساسية. علاوة على ذلك، فإن الدين هو عنصر ثقافي كوني موجود في جميع الفئات الاجتماعية، وهذا ما يذهب اليه روجيه باستيد في كتاباته والذي أكثر ما يظهر في كتابه "الأديان الافريقية في البرازيل" حيث اعتبر ان للدين دورا وظيفيا اجتماعيا ثقافيا لا يمكن الاستغناء عنه وتحتاجه كل المجتمعات مهما كان مستوى تقدمها. يعتبر باستيد انه إذا كان الدين يشكل ملاذا آمنا للإنسان عند شعوره بالخوف من قوى خارقة لا يعقلها، خصوصا في المجتمع البدائي، فإنه، في المجتمع الحديث، يعبر عن معاناة الانسان من القوى الاجتماعية مثل قانون السوق والأزمات الاقتصادية وافلاس المؤسسات الإنتاجية والبطالة، والتي يمكن ان تنقَضّ على الانسان تماما كما كانت تنقَضّ عليه القوى الخارقة للطبيعة في المجتمع البدائي.

من جهة أخرى، إذا كان الدين يشكل أداة للاستغلال الرأسمالي في بعض المجتمعات الصناعية المتقدمة، فإنه شكل أداة تحرر وانعتاق ونمو في مجتمعات أخرى، والتاريخ المعاصر يظهر ذلك بشكل جلي حيث كان الدين والقيادات الدينية المحرك الأساسي لثورات التحرر.

ان العبرة تكمن في الوعي الفردي والجماعي عند البيعة، او الجماعة المؤمنة، وبناء على هذا الوعي تتحدد علاقتها مع المعتقد الديني، أي مع خالقها كما مع بعضها البعض.

Previous
Previous

متحدون في الصلاة

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يهنّئ غبطة البطريرك روفائيل بيدروس الحادي والعشرون ميناسيان