تحديات الدين تجاه السلطة

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

عندما نريد التكلم عن الدين في علاقته مع السلطة، في الاشكال التاريخية التي اتخذتها هذه العلاقة، اول ما يتبادر الى الذهن قول السيد المتجسد " مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ".

كيف يمكن تحويل هذا البيت للصلاة بالمعنى المجازي الى مغارة للصوص في بعض الأمكنة وفي بعض الازمنة؟

بأي سحر ساحر يتحول الدين من خشبة خلاص الى مطية لمصالح الفئات الحاكمة، تسخّر بها الشعوب وتلهيها عن مصالحها الحيوية؟

الدين ليس الشيء الوحيد الذي شيّئه الانسان، هذا المخلوق ذو النفس الامارة بالسوء، ولكن الدين يشكل الاداة الاسهل المنال والقادرة على تحريك الناس بأسرع وقت ممكن، عدا عن انه لا يُخضع مستعمله للمساءلة. ما ان تدخل قوى الغيب وابعاد الماوراء حتى تنتفي المساءلة، هذه الكلمة السحرية التي بدونها لا مؤسسات ولا ديموقراطية ولا تقدم.

التحدي هنا يمكن في منع حرف الدين عن مساره الأساسي تحت ضغط المصالح السياسية والاقتصادية، وهي متحالفة على مر التاريخ.

السبيل الوحيد هو التحصين!

ما هي سبل التحصين التي تجعل ان يضطلع الدين بالمسؤوليات الاجتماعية الملقاة على عاتقه؟

التحدي الأول هو في فصل الدولة عن الدين.

درج الباحثون على اعتماد مقولة فصل الدين عن الدولة بمعنى ان تبتعد القيادات الدينية عن القيادات السياسية ضمن منطق "أعطوا ما لقيصر، لقيصر وما لله، لله"، وهذا القول للسيد، منذ الفيتين، يختصر ما تظن الأحزاب العلمانية التقدمية انها اكتشفته منذ بعض العقود او ورثته عن عصر النهضة.

استعمال تعبير فصل الدولة عن الدين هو للدلالة ان الدولة هي التي تحتاج ان تختبأ وراء الدين وليس العكس كما كان يُظن، والنموذج اللبناني صارخ في هذا المجال حيث تنهش الطائفية السياسية جسد الوطن وحيث اكتشف السياسيون ان الوسيلة الفضلى لحماية محاصيل فسادهم هي الاختباء وراء الدين.

التحدي الثاني هو في حسن تعلم مقولات الدين وحسن استيعاب قيمه والانتماء اليها.

لا يحق لاحد، بأي شكل من الأشكال، الحجر على الدين أو احتكار تعاليمه أو تدجينه خدمة لمرجعية او لجماعة سياسية.

ان امرا مثل هذا لا يمكن معالجته الا بالتعليم الديني المنهجي والمستدام. ان حسن عقدنة المؤمنين هي تحصين لهم، افراديا وجماعيا، ضد استغلالهم بواسطة الدين. عندما نقول تعليم ديني، نقصد أيضا التعاليم الاجتماعية-السلوكية لعقيدة دينية معينة، ترشد الافراد الى سواء السبيل والاستقامة ومحبة الأخر والمجتمع.

في هذا المستوى لا بد من التنبه لأمرين: الأول ان يجري تدريس العقيدة الدينية من خلال النصوص الاصلية وليس عبر الـتأويلات والشروحات، والثاني ان يعاد النظر في بعض النصوص التي لم تعد تماشي لا الزمن ولا العلم. انها تدابير موجعة، لكنها ضرورية.

إضافة الى ذلك، ان الدين حرية وعدالة وسلام ولا يمكن تركه لغير المتخصصين بتدريسه، لذلك لا بد من تحضير كوادر كفية تحسن تعليم الدين وتمنع من دمج الخرافة مع تعاليمه.

التحدي الثالث هو في ادخال الحوكمة الرشيدة الى المؤسسات الدينية من اجل حسن استثمار موارد الجماعة المؤمنة من اوقاف ومؤسسات وغيرها.

ان الأوقاف والمؤسسات الدينية على أنواعها، إضافة الى القدرات البشرية المتوفرة لديها، تشكل ثروة هائلة يجب وضعها في خدمة المؤمنين والناس، لذلك وجب حسن ادارتها وتفعيل انتاجيتها تماما كأية مؤسسة إنتاجية ربحية في القطاع الخاص. نقول ربحية لان الهدر فيها غير مقبول اذ ينعكس سلبا على كمية ونوعية الخدمات التي تؤديها هذه المؤسسات للناس.

من هنا ضرورة الحوكمة الرشيدة واشراك العلمانيين في كل لجان إدارة جميع المؤسسات التابعة للجماعة الدينية، وذلك من اجل الحفاظ عليها وحسن ادارتها ورفع مرونتها وانتاجيتها وجعلها في تفاعل وظيفي مع محيطها.

ان وجود العلمانيين الى جانب رجال الدين في حوكمة وإدارة المؤسسات، يؤمن التوازن بين البعد الروحي والبعد المادي في استثمار هذه الموارد لمصلحة الناس التي تحتاج الى الدعم في حياتها.

التحدي الرابع الدفاع عن الحريات من ضمن منظومة حقوق الانسان

الايمان بالخالق والانتماء له ومحبته وشكره على عطاياه هي حرية وكرامة بحد ذاتها. انه الكائن الوحيد الذي ليس في اتكالنا عليه من مذلة.

ان القيادات الدينية، الاصيلة الانتماء والايمان، هي رأس حربة في الدفاع عن الحريات وصيانة حقوق الانسان. لقد ذكرنا أيضا كم من قائد ديني قاد شعبه الى الحرية واستشهد من اجل حقوق شعبه او جماعته. لذلك نعتبر انه على المؤسسات الدينية مسؤولية صيانة حقوق الناس وكراماتهم ضد سلطان جائر او محتل غادر.

ان القيادات الدينية الشريفة والمؤمنة بحقوق الانسان – حقوق شعوبها، هي ضمانة أساسية لصيانة الحق الإنساني وتاليا السلم الأهلي، وهذا الامر مفصلي واساسي بحكم بعض الحصانة التي قد تحظى بها هذه القيادات، كما بحكم قدرتها على تحريك الناس نظرا للمصداقية التي تتمتع بها.

التحدي الخامس دعم الناس ماديا عبر المشاريع الإنتاجية والتنموية وتحويل الحالة الدينية من حالة ايمانية روحية بحت الى حالة اجتماعية اقتصادية تتعاطى مع حاجات الناس.

إضافة الى المؤسسات الوقفية التي ذكرناها أعلاه، تستطيع الهيئات الدينية القيام بالاستثمارات الضرورية لتأمين عدد من الخدمات للناس.

تستطيع هذه الهيئات تأمين السكن ومجالات الاستخدام والاعمال على أنواعها تماما مثل مؤسسات القطاع الخاص والدخول في مجالات استثمارية تنموية، علما ان الايمان الديني لا يحول دون ذلك، لا بل العكس، نكون قد أحسنا إدارة الوزنات.

ان مساعدة الناس على إيجاد عمل لهم، اكان على حسابهم او بواسطة الاستخدام، من شأنه اخراج الاُسَر من أتون البطالة والعوز وتاليا التبعية للإقطاع السياسي او المحسوبيات.

هذا التوجه يشكل قيمة مضافة تنموية على صعيد المجتمع ككل نظرا لحجم الاستثمارات والمشاريع التنموية، الريفية والمدينية التي يمكن ان تقوم بها مؤسسات الكنائس.

خلاصة

لا بد من تلازم بين العلم والدين من اجل حماية كليهما ولكي يصبح دين الناس في مواجهة طاغوت الناس وفي خدمة الناس، لان السبت للإنسان، ولكن الامر يتطلب الكثير من الحكمة والرجاحة والدراية.

Previous
Previous

متحدون في الصلاة - خميس الصّعود

Next
Next

وفد من جمعيّة "التلاقي" في زيارة إلى مجلس كنائس الشرق الأوسط في بيروت