انطاكيون رغم الدمار
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
عند ركام انطاكية الحجر، وقف بطريركها، يوحنا العاشر، يخاطب انطاكية البشر، يوم القيامة.
مسيحيون دعينا هناك، ومسيحيون ما زلنا، ومسيحيون سنبقى حتى انقضاء الدهر.
جولته في شمال المشرق الانطاكي المتعدد النكبات، منذ قرن ونيف، بلسمة الجراح ورفعت المعنويات وزادت الايمان رسوخا، وزادت الانتماء صلابة.
قَدُم غبطته، الى الشمال الانطاكي المُدَمّى والمُدَمّر، على رأس وفد كنسي جامع، لكي يقول لأهلنا هناك، نحن معكم، في السراء والضراء، وجذورنا ما زالت ضاربة في عمق الايمان والأرض والتاريخ، ولن نبرح امكنتنا.
الجولة حمّالة معانٍ، ذروتها كانت الصلاة يوم القيامة على ركام احجار الكنيسة لكي يقول للجميع انه، قد تتحول امكنتنا الأرضية الى ركام، اما امكنتنا السماوية الروحية فهي راسخة مذ دعينا مسيحيين في تلك الأرض، ومذ أبحر رسلنا من موانئها منفذين وصية السيد المتجسد، ان "اذهبوا وبشروا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس".
الثالوث المقدس كان هناك يومها، رأيناه في وقفة البطريرك وعزمه وتخطيه الصعوبات والاخطار، كما الوفد المرافق.
الثالوث القدوس كان هناك يومها، اذ رأيناه أيضا في حضور الأهالي واقبالهم واشتراكهم بالصلاة وتعبيرهم عن فرحهم بقدوم صاحب الغبطة وتحلقهم حوله وتأكيدهم على ايمانهم بالمستقبل رغم النكبات التي تلاحقهم منذ زمن الأجداد.
فوق الركام وُضع الصليب وثُبتت الايقونات في تحدي مسار الحياة لمسار للدمار.
وفوق الركام صلى البطريرك المتحدي الدمار مع وفده المرافق والمؤمنين.
كل ذلك يحمل رمز ان إرادة الحياة هي الغالبة دوما على قوى الشر والفناء.
المسيح قام! ثلاثة مرات رددها غبطته فوق الدمار، على وقع الاجراس،
حقا قام! ثلاثة مرات اجابه المؤمنون الواقفون أيضا فوق الدمار وعلى وقع الاجراس،
فلنسجد لقيامته المقدسة ذات الثلاثة الأيام! قال لهم غبطته، مشددا على اننا أبناء القيامة، وأننا باسم الرب سنقوم.
خلال قداس القيامة، كما خلال سائر مراحل الجولة، شدد غبطته اننا لا نبكي على ما دُمّر، ولا نُصاب لا بالإحباط ولا بالهزيمة، لان مثالنا الدهري هو السيد الذي انتصر على الشر والفناء، والذي هو نفسه، لم ولن يفارقنا، ويمدنا بالقوة في الملمات.
خلال تلك الصلاة والكلمة التاريخيتين، في هذا اليوم التاريخي، في هذا الموقف التاريخي، عبّر غبطته كم ان انطاكية في معانيها وعبر وجودها، تتخطى الأمكنة والازمنة، متطلعة الى وجودها الابدي كرمز وشهادة ودور في العالم المسيحي، كما في العالم.
هي الكنيسة الرسولية التي اشعاعها الروحي والفكري والثقافي عم العالم.
هي علامة فارقة على مدى الأزمنة وفي كل الدهور، لان دورها لم ولن يتكرر في مسار الايمان برسالة الرب المتجسد الذي لا فناء لملكه.
انها رعية بطرس الرسول، الذي أسسها وكان الاسقف الأول عليها.
انها المتقدمة في المسكونة.
من انطاكية، يومها، من وسط الدمار، أرسل غبطته السلام لكل العالم، وحاكى التاريخ، قائلا للمعمورة ان انطاكية هي، هي، باقية ببشرها وتاريخها وذاكرتها ولو سقط حجرها. لقد كانت رسالته رسالة محبة، مستلهماً السيد الذي سُمّينا على اسمه في انطاكية.
كان المؤمنون يستمعون والرضى والفرح باديين في عيونهم الشاخصة اليه، والعزم واضح على محياهم، وقد عبّروا لغبطته كم ان زيارته قد شدت ازرهم وقوت عزيمتهم وعززت رجاءهم بغد أفضل.
الجولة التاريخية التي قام بها غبطته على رأس وفد انطاكي تضمنت محطات كثيرة، كل محطة تحمل رموزاً ومعانٍ وعبر، لكن الأكثر تعبيرا بينها كان قداس وعظة القيامة فوق الدمار في انطاكية.
الزيارات الى مرسين والسويدية والاسكندرون وغيرها من مدن اللواء وشمال المشرق الانطاكي، حملت هي أيضا محبة راعٍ يتفقد رعيته في ذروة مصابها، فيعاضدها ويمدها بالمعنويات والامل.
الالتفاف الشعبي حول صاحب الغبطة والوفد المرافق، والصلوات والاستقبالات واللقاءات والاحتفالات التي زخرت بها هذه الجولة، أظهرت كم ان الرعية ما زالت راسخة في ايمانها ومخلصة لسيدها الفادي ومُحِبّة لراعيها البطريرك الذي لم تفارق تفكيره ومشاعره يوماً.
سوف يُكتب الكثير عن هذه الجولة التي تدخل التاريخ الايماني والاجتماعي من بابه الواسع، اذ شكلت محطة يتوق لها المؤمنون في جميع المدى الانطاكي.
هذه الجولة يمكننا تسميتها عن حق انها جولة الرجاء "لان ابجديتنا انطاكية".
فليتعلمها العالم!