تأملات في زمن القيامة
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
نحن اليوم في زمن القيامة، الزمن الذي فيه تجلت الوهية السيد في أبهى حللها، حيث انتصر على الفناء وأعطى املاً لبني البشر.
المخلوق الصغير، الغارق في الاثم والمتهافت على المصالح، الذي هو على استعداد للقضاء على الأخر، لا بل الأخرين، من اجل مصالحه واشباع انانيته، تعلّم معنى الفداء.
تعلّم كيف ان ابن الانسان، المتجسد العصي على الخطيئة وقاهر الفناء، بذل نفسه من اجل مخلوقات لم تمارس منذ بداية وجودها سوى الموبقات، ما عدا قلة قليلة لاقت في التاريخ مصير السيد، ولكن دون العبر التي زودنا بها في جلاله.
ها هو يحضر بيننا، بتواضع شديد عزّ نظيره، ويكبر بين ظهرانينا، مثل أي انسان عادي، ويقوم برسالته على أكمل وجه، دون طلب من احد، ودون قهر لأحد، بل بكل طواعية ومحبة، بلغت ذروتها ببذل الذات.
على الصعيد الإنساني، ان ازكى الشهادات هي شهادة الدم، وها هو المتجسد يريق دمه فداء عنا، للعهد الجديد.
نعم، انه العهد الجديد. انه اعلان نهاية عهد ما قبله، العتيق، وبزوغ عهده، العهد الجديد.
في كل مساره على الأرض، وفي حياته بين الناس، خطّ طريقا جديدة للإنسانية.
تحمل الإهانة والاستهزاء والجلد، وحمل صليبه طيلة طريق الجلجلة، وتقبل المسامير الغليظة تنهش جسده المقدس، وتقبل طعنة الحربة تخترق كيانه الأرضي الدامي، وشرب الخل بدل الماء...وغفر.
في ذروة وجعه، وهو يقارب لفظ أنفاسه الأرضية، غفر.
لم يُصَدّق الحاضرون ما رأوا، ولم يفهموا شيئا مما شاهدوه، لان عقولهم المثخنة بالإثم لم تستطع استيعاب كل هذا الصمود، وكل هذا الغفران، وكل هذه المحبة.
انه حدث غير ارضي، غير بشري، غير ترابي.
انه حدث سماوي، إلهي.
ويل للظُلاّم من صمت المظلومين.
ويل للطغاة من صبر المسحوقين.
ويل لمن لم يفهم علامات الأزمنة وتمادى في جهالته.
لقد وضع السيد الحضارة الإنسانية على قواعد جديدة، قوامها المحبة، التي تجسدت بغفران من كان ينزف على الصليب لمن كان يستسقي دمه.
لقد فهم المتجسد النفس البشرية وسبر اغوار مكنونات صدر الكائن البشري، فأتى لهم بالعلاج الذي لا علاج بعده. المغفرة، واساسها المحبة.
قال كلمته، التي لم تفهمها آنذاك سوى قلة قليلة، ومشى، ومشت هذه النخبة المعاكسة وراءه، على هديه، تبشر جميع الأمم وتعمّدها باسم الاب والابن والروح القدس.
لا الضواري اخافتهم، ولا وسائل التعذيب اثنتهم عن ايمانهم، ولا الترهيب دفع بهم الى التراجع، بل بذلوا الشهيد تلو الأخر، شهداء لا عد لهم ولا حصر، حتى غلب السيد عبرهم العالم.
على هديه ساروا، وأعطوا للمجتمع وجها جديدا، وللقيم الاجتماعية منحى غير مألوف، ودفعوا بالحضارة الإنسانية قدما، الى ان وصلت الى ما وصلت اليه.
اتضع فرفع المتواضعين، وقال للمستحقين "طوبى لكم" لكي يعلموا علام هم قادمون.
عرف سلفا اننا سوف نعيّر باسمه، وبقينا على الايمان الجديد، الذي لا صلاح الا به.
نحن نعيش اليوم، في كثير من مناطق العالم، اضطهاد الأزمنة الأولى، حيث يُصلب السيد كل يوم!
في عديد من الأماكن في العالم، ضرب العُقوق منظومة القيم، فتنكرت الناس لإيمان المتجسد الذي شكّل قاعدة حضارتها.
هم يصلبونه، كل يوم، كل لحظة، وهم أيضا لا يدرون ماذا يفعلون.
اليوم، بعد الفيتين، نرى البشرية على مفترق طرق، واقفة محتارة بين خير شكل لها ضماناً لحياتها، وشر يحاول استجلابها بشتى المغريات.
البشرية اليوم ضائعة يا أيها السيد المتجسد العصي على الفناء، وهي تتلمس طريقها بعد ان سقط قسم منها في الظلمات.
قم يا رب واحكم في الأرض لان بني البشر يسيرون بخطى وئيدة نحو المنحدر.
نورك أيها السيد ما زال يشع على العالم، ولكن جزءا منه قد فقد بصيرته.
كم انهم بحاجة الى هديك، كم هم بحاجة الى نور قيامتك!