المناسبات الدينية والحياة المشتركة

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

أكتب هذه المقالة لمناسبة شهر رمضان المبارك، وهي تصح في كل موسم ديني في بلادي، اكان زمن الميلاد او زمن القيامة او زمن الفطر.

في الحالات الطبيعية، وعندما يكون السلم الأهلي مستتبا، تشكل المناسبات الدينية مجالا لتفاعل الناس مع بعضها البعض وتألفها واندماجها في بوتقة اجتماعية ثقافية، تُنتج روحية عامة جميلة وتُعمم الفرح والالفة بين الناس.

شهر رمضان المبارك، وهو شهر الصيام عند المسلمين، وهو في جانبه الديني شهر صلاة ومغفرة، يتحول في جانبه الاجتماعي الى مناسبة تلتقي فيها الاسر، المنشغلة عادة بحياتها اليومية، فتصلي وتفطر مع بعضها البعض.

اما ما يجعل شهر رمضان شهر الفة ومحبة فهو ان المشتركين في هذه "المناسبات" اليومية، أي الإفطارات، ليسوا فقط من المسلمين او من أبناء الاسرة الواحدة، بل تتوسع الحلقة لكي تشمل أصدقاء وجيران وزملاء في العمل من المسيحيين أيضا.

لا بل أكثر. لقد أصبح المسيحيون يقيمون الإفطارات ويدعون اصدقاءهم او زملاءهم المسلمين اليها، في توق من كلا الجانبين الى التقرب من الاخر، عبر الدين في بعده الثقافي والاجتماعي، وانطلاقاً من توصية الدين للناس بالمحبة والتسامح في كنف الرحمن.

ليس المطلوب منك ان تعتنق ديانة رفيقك في الوطن، ولا ان تقنعه بدينك، بل ان تحترم معتقده وتفرح لفرحه وتشاركه تجربته الايمانية بمنحى تضامني اجتماعي، ان دل على شيء، فإنه يدل على رقي اجتماعي وذهنية ديموقراطية متقدمة.

في بيروت، كما في سائر عواصم بلاد العرب، يعيش الناس تجربة رمضانية توالف القلوب وتمتن اللحمة بين الناس. لقد شهدتُ، منذ نعومة اظفاري، كيف كان اللبنانيون يعيشون رمضان مع بعضهم البعض وكيف يندمج المسيحيون في التقاليد الرمضانية في مسار التناضج بين فئات المجتمع، والعكس بالعكس ايضاً.

لقد وردني نص عن انسان فلسطيني يدعى ميشال أيوب، يفيد ان هذا الانسان هو مسحراتي مسيحي، وقد دأب على ايقاظ المسلمين منذ 14 عاماً في مدينة عكا في فلسطين. ويصف النص ان صوت المسحراتي المسيحي يصدح مغردا خارج سرب الشعارات العنصرية.

يستيقظ ميشال أيوب في الساعة الواحدة فجراً، ويستعد للخروج بمهمته، فيجوب شوارع عكا حتى الساعة الرابعة فجراً منادياً بصوته الجميل على النائمين لكي يستفيقوا من اجل السحور، فتضاء الشبابيك ويدعوه اهل الحي لكي يأتي ويتسحر معهم، وهم يدعون له بكلام طيب.

انها اللحمة الاجتماعية، التي اسميها التناضج الاجتماعي-الثقافي الناتج عن سلم اهلي واستقرار اجتماعي.

في المقابل، ينحو المسلمون في بلادي نفس المنحى التناضجي في علاقتهم مع تقاليد المسيحيين الدينية-الاجتماعية.

النسبة الأكبر من الاسر المسلمة تزين شجرة الميلاد او تقيم مغارة من دون اشخاص، بناء على المعتقد الإسلامي، ويعايدون المسيحيين بالعيد مستعملين العبارات التي يعايد بها المسيحيون بعضهم بعضاً. كذلك يحتفلون معا في عيدي الميلاد ورأس السنة، رغم انهم يسمونها راس السنة الميلادية.

حتى خلال الحرب اللبنانية التي دامت خمسة عشر سنة، فقد استمر هذا المنحى، وازداد بشدة بعد نهاية الحرب الاهلية.

دار البهيج، وهو مركز للأطفال ذوي الحاجات الخاصة، انشأه مجلس كنائس الشرق الأوسط في البقاع الشمالي، خلال ثمانينات القرن الماضي، كان يصنع مغارات ميلادية محفورة بالخشب، كمشروع مدر للدخل، وكان يبيع كل هذه المغارات في منطقة تواجده، وهي منطقة أهلها من المسلمين. حتى شراء ارض هذا المركز، فقد تم عبر تبرعات قدمها اهل المنطقة ذاتها الى المجلس آنذاك، على ضوء الثقة التي توطدت بين المجلس والأهالي عبر مشاريع أخرى سابقة لهذا المركز.

ان الحياة اليومية، وحسن المعاملة، هي أفضل السبل للسلم الأهلي والوئام الاجتماعي.

اما المثال الأخر الذي أيستحق ان نورده، والذي يُظهر جليا مدى التقارب بين الناس، فهو أحد الشعانين.

ان نسبة الأطفال المسلمين الذين يشتركون بعيد الشعانين كبيرة جداً، والاهم من ذلك ان الخيار الذي يريده الطفل في الاشتراك مع رفاقه، يجد تأييدا من جهة الاهل، لا بل فرحا في القيام بذلك. وأحيانا يكون القرار للأهل باشراك ولدهم في زياح الشعانين إذا كان ما زال صغيرا جدا في السن. إنك لترى عشرات الأطفال المسلمين، محمولين على اكتاف آبائهم، يجوبون بهم الشوارع في زياح الشعانين وهم فرحون بذلك.

في نفس السياق، يشترك الكثير من الأهالي المسلمين في صلاة الهجمة التي تجري يوم عيد القيامة، فرحين بمشاركة أبناء منطقتهم او قريتهم فرحة عيد القيامة.

ان الناس، بالسليقة، تميل الى التفاعل الإيجابي مع بعضها البعض، ولا يعاكس هذا المسار الا قيادات سياسية فاسدة تتوسل الدين في السياسية، وترى في الطائفية السياسية الوسيلة الفضلى للتعمية عن ارتكاباتها.

ان الحياة الاجتماعية السوية والمتوازنة، يضاف اليها بعض من اليسر الاقتصادي، في إطار دولة حازمة، تعطي كل ذي حق حقه، تؤدي الى مواطنة كاملة حاضنة للتنوع ونابذة للتمييز العنصري.

ان الاشتراك في الحياة، وإزالة الحواجز النفسية بين الناس، وتشجيعهم على التعرف الى تقاليد، وحتى معتقدات، بعضهم البعض، هي السبل الناجعة لتحضير غد أفضل لأجيال سوف تلومنا إذا لم نقم بذلك.

إذا لم ننجح في هذه المهمة التاريخية، فسوف نكون بصدد زج مجتمعاتنا في حروب أهلية كل بضعة عقود من الزمن، وسوف تلعننا الأجيال القادمة وهي تهم بمغادرة البلاد هربا من أتون الحروب العنصرية.

التحدي موجود، ووسائل الرد متوفرة ومعروفة، والخيار لنا.

Previous
Previous

متحدون في الصلاة

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يصدر الرزنامة المسكونيّة لشهر نيسان/ أبريل 2023